يوميات مغربي في البرازيل (1) عقدت العزم حتى لا تموت روحي و يذوب جسدي كقطعة سكر

لشبونة: عبد الرحمن بلحداد

كنت أحلم باليوم الذي يأخذ رب ما إليه كل أولئك و هؤلاء الأوغاد إلى جحيم ما كي نبني لنا عشاـ وطنا، ولو بحجم فكرة. إني أتخيل اليوم الذي يلي انسحاب آخر وغد منهم من أحلام هذا الشعب كي أبقى أنا وأنت، حبيبتي، في بلد قتلوا خيرة نسائه و رجاله وأخصوا وأصابوا بأعطاب نفسية قاتلة ما تبقى فيه من هذا الشعب الفرح المتباهي، حد الثمالة، بجهله المقدس… وإن أراد هذا الشعب الميت أن يلحق بهم، فليفعل، شريطة أن نبقى، أنا وأنت، حيث ولدنا. كي نبدأ من جديد قصة الخلق، في مكان ما تركه لنا أحد أولئك التافهين المنهزمين. لا أكون أنا ملاكا ولا تكونين أنت أفعى. لا تغريني بتفاحة ولا أخدعك بأني قادر على تحسين النسل، حيث إننا من نفس التشوه وبنا كل عطب نفسي صاحبنا منذ الصغر، في عهد علقوا فيه أرجلنا الصغيرة بفلقة كي نحمد العلي القدير على حسن تدبيرهم لشؤون البلد، و نحن كبار…

ما يغريني في الأمر هو أنهم، يوما ما، سينسحبون في صمت، هذا إذا لم ينتقم منهم ومن نفسه هذا الشعب الخرع المهزوم… وحتى لو انسحبوا فإنهم سيتركون خلفهم فضلاتهم وذكريات كل التشوه الذي رسموه على جدار نفسياتنا جميعا… لكنهم، حتما، سينسحبون في صمت، ليصمت بعدهم كل الصراخ الذي واكب انبعاثنا المشؤوم، كقردة تتنكر لأصلها. ولأنهم ولأننا كذلك، فإنني أريد التنكر لهم وللإنسان المشوه الذي صاغوه وجعلوني إياه، رغما عني و دون استشارتي.

 أتمنى أن أبقى هنا، أنت وأنت، فقط، لعلني أمنحك نسلا بتشوه و أعطاب نفسية أقل وتبعثين أنت فيه الحياة. نسل برسالة أخرى، وبلغة واضحة المعالم. لغة واحدة. وسأغلق عليهم كل الأسوار كي لا يقتحموا جنتنا، أنا وأنت، فيمتزجون، هم ونسلهم، بنسلنا ثم يعبدون ذواتهم تحت قناع عبادتهم لإله قبيلتهم، ثم ينزوي كل منهم إلى قبيلته ليحارب القبيلة الأخرى، فيبارك أعمالهم البشر ـ الإلهة التي اغتصبتهم فحكمتهم. لا يمكنني أن ابقى ببلد الأوغاد لسنوات أخر. عيونهم تطاردني في كل مكان، فإن لم أهرب في هذه السنة، فسوف أموت غما، لاشك في ذلك..

 أريد أن أكون أبعد ما أكون عنهم كي لا يلحقوا بي وكي لا أرى نسلهم. ليبقوا، إذن هناك، حيث هم، فقد عقدت العزم أن أكون لوحدي حتى لا تتعب روحي أكثر وكي لا يذوب جسدي أكثر، كقطعة سكر. يريدونني معهم وبينهم كي يستدفئوا بتعاستي، فيطمئنوا إلى أن تعاستهم أجمل. سأهرب إلى كل وأي مكان وسأترك لهم حتى وطن الحلم ، جنتهم تلك، والتي زينتها لهم أغاني الثورة وأنبياؤهم ـ أنبيائنا، الكذبة.

يريدونني معهم حتى إذا عمت مصائبهم بين عباد الله هانت في عيونهم، هم. سيقتلون بعضهم البعض، لاشك في ذلك. لمحت هذا في عيونهم وهم يرفعون شعارات ثورية، ذات زمن كان جميلا في أعين من لم تلسع و تسلخ جلودهم سياط السجان، لكنه كان خلاف ذلك في أعين المعتقلين و الشهداء وعائلاتهم بعد أن طاردت الأخيرين أعين وألسنة شعب لا يحفظ، و لو بعض الوفاء لمن سجنوا و من ماتوا من أجله، من أجلنا…

إلى أين أذهب، إذن، وهل يوجد مكان في الكون خال من الودعاء الحالمين ثم من “خير أمة” أضاعت نفسها وضيعت معها الناس كافة..” سأذهب إلى أي مكان في الكون، خارج عالمهم الموبوء، حتى و لو مت فيه ككلب شريد، لكن بقامة منتصبة، في الثانية الأخيرة من العمر. لا أريد أن أراهم، أبدا ويكفيني أنني أحمل في داخلي هذا الشبيه بهم، والذي يسكنني أو أسكنه، رغما عني، و ربما رغما عنه. لا أريد أن أحمل عبء وطن متخيل أكبر منا جميعا، بل أكبر بكثير من هذا البلد و من كل التضحيات التي مرت والأخرى التي ستلحق بها…

لكن، كيف لي أن أهرب من ذكريات بها كل وجع، وهي حتما أنا ذاته أو بعض ما كنته… ثم قبل هذا وبعده، كيف لي أن أنسى أمي وألا أشعر بحنين تجاهها وهل أجبن أكثر فأتركها تصارع الحياة لوحدها في بلد الأوغاد. الوطن كان وسيظل حلما جميلا، يسخر منا جميعا، من برجه المزين العاجي، من مكانه القصي . لاشك أنه هناك ينتظر انقراض أجيال حالية وأخرى قادمة، ربما إلى ما بعد قرن من الآن أو أكثر لتنبعث أجيال أخرى من الرماد وبعد أن تغادر الكرة الأرضية شعوب أخرى، خارج قبيلة ” خير أمة….”… الوطن كان ولا يزال حلم عشرات من الودعاء السكارى وسط شعب طيب، لكن جاهل، منهزم ومن خشب… سيظل الوطن ساكنا أحلام الثورة، معطرا أفواه من ناضلوا وتألموا من أجله ثم راسما ملامح الشهداء… كان ليكفيني ما كنت فيه و كان علي أن أتفرغ لحروبي الصغيرة ولأمراض الجسد والنفس الكثيرة، عوض لعب دور طبيب يقترح وصفة دواء لمن هم أقل منه مرضا، أو كما قا الشاعر: طبيب يُداوي والطبيب مريض. هل أفعلها حقا؟ هل أهرب مني ومنهم ثم أفر بروحي و جسدي وهل لدي قدرة على ذلك؟ لست أدري. لكن ما كنت أعرفه، آنذاك، هو أن رحيلي عن هذا العالم، موتا او هربا منهم، لأفضل لي من حالة نفسية توشك أن تجعل قلبي ينفجر أو أن تدفعني لغرس سكين في رأسي كي يبرد، هو، فأرتاح، أنا، منه أو كي يرتاح كل منا من صاحبه. لاشك أن سيدهم، العابث بمصائرهم جميعا، ممسك بخيوط اللعبة كلها ثم يسخر منهم ويقهقه، حيث هو. رأيته في كل أحلام النوم واليقظة وهو يوصي بعضهم ببعض، قتلا وسبيا و سفكا للدماء…

مراكش الجميلة هي، أيضا، مراكش اللعنة. صيفها، آنذاك والآن وإلى الأبد، يعصف بي ويشوش علي أفكاري. وفي زمنهم الجميل ذاك، كنت مصابا بحرقة معدية، بل بكل مرض لكي يتآمر صيف مراكش، بل كل فصولها مع المرض مما جعلني، حينها، بوزن ريشة، وزن لم يستطع قط تجاوز الثلاثة والخمسون كيلو غراما، مما يعدون… أيها الجسد النحيل العليل! أما آن لك أن ترحمني؟ أما آن لك أن تستقبل لحما وشحما أكثر و بصفر مرض؟! وكيف له أن يفعلها دون منه ما كان يطالبني به من بروتينات وفيتامينات، خاصة أن المعدة كانت، بل لا تزال وإلى يومنا هذا،على خصام مع وجبات غذائية مغربية دسمة، ما كان لها أن تهضمها ولا تستطيع أن تفعل، و خصوصا بين أشباح آدمية تتباهى بتصدير التعاسة لمن لم يطلبها منهم، قط ؟! وفي السادس عشر من شهر غشت ـ أغسطس من سنة 1997 فعلتهاـ لأي نعم، فعلتها، هاربا بفكري وجسدي منهم إلى بلد السامبا لكي أصل في السابع عشر من نفس التاريخ إلى مدينة ريو دي جانيرو بحقيبتين، بها ملابس وكتب وشرائط و أقرصة موسيقى و بحوالي 500 دولار أمريكي وب 900 مارك ألماني في جيبي لم يستطع اقتلاع أي فلس منها شرطة المطار بالدار البيضاء بمغربنا، رغم إصرارهم وابتزازهم… وصلت إلى بلد لم أكن أعرف و لو كلمة واحدة من لغته ولا أيا واحد من أهله ولا من غيرهم. و ما إن وصلت إلى البرازيل حتى اكتشفت أن عملته، أي عملة الريال البرازيلي في ذلكم العهد كانت تتجاوز قيمة عملة الدولار الأمريكي، مما جعل النقود التي أتيت بها إليه تنتهي في أقل من شهر من اللحم والخمر وما جاور هذا من دفع فواتير السكن…

يتبع