ميلان كونديرا عن قوة الصدف والطريقة الموسيقية التي تشكل بها حياتنا
لوسات أنفو: ترجمة إلياس أبو الرجاء
هناك نموذج للواقعية يفيد بأن كل عمل تقوم به، من الوقوع في الحب بشخص معين، إلى قراءة هذا المقال الآن، محكوم بآلية روب جولدبرغ للأحداث، التي تم تشغيلها بواسطة الانفجار العظيم: عالم كلاسيكي للحتمية الميكانيكية، لا مجال فيه للاختيار.
هناك أيضًا نموذج آخر يفيد بأن كل حدث هو نتاج للعشوائية والمتغيرات العشوائية: عالم الكم، الذي يعد الصدفة هو الاسم الآخر للإله.
بين هاتين النسختين، تطاردنا القاعدة المتناقضة للإرادة الحرة، وهي تجربتنا لما نسميه “الصدفة السعيدة” – التقاء حدثين يحمل كل منهما وزنًا عاطفيًا كبيرًا، واحتمالية حدوثهما معا صغيرة جدا.
ولكن هذه الصدف تصبح ذات معنى من خلال تركيز اهتمامنا على تلك العناصر المحددة من الواقع، من بين العديد من العناصر الأخرى التي تحيط بنا في نفس الوقت، لأن الطريقة التي نختار بها دفع الاهتمام، تجعل العالم على ما هو عليه. استطاعت الشاعرة الحائزة على جائزة نوبل، فيسوافا شيمبورسكا، التقاط هذه التفاعلات الساحرة بين العقل والواقع في قصيدتها الرائعة “الحب من النظرة الأولى”. الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل، وولفغانغ باولي، وصديقه كارل يونغ أطلقا عليه اسم “التزامنية” ووضعوه في مفترق الطرق بين الفيزياء وعلم النفس.
في تلك اللحظات المدهشة من الصدفة، أيًا كانت أسبابها، نشعر بأنه وراء واقع هذا العالم الظاهري يوجد عالم آخر، يرسل لنا علامات يلمح إلى إمكانية المستحيل..
هذا ما يستكشفه ميلان كونديرا (1 أبريل 1929 – 11 يوليو 2023) في روايته الكلاسيكية لعام 1984 بعنوان “كائن لا تحتمل خفته “.
يضع كونديرا الصدفة في قلب القصة العاطفية التي تجري بين شخصين، يعتقدان أنهما اختارا بعضهما البعض. تيريزا، شخصية رومانسية مليئة بالحنين الوجداني. وآنا كارينينا التي تعمل كنادلة في مطعم. وفي إحدى الليالي، يرفع رجل النظر عن كتابه ليطلب كونياك، في اللحظة نفسها، يتدفق عزف بيتهوفن عبر الراديو. منذ زمن طويل، قامت فرقة موسيقية في بلدة تيريزا الصغيرة بأداء موسيقى بيتهوفن، “صورتها عن العالم الآخر، العالم الذي تتوق إليه”. تأخذها كعلامة، لابد أن يكون توماس هو الجواب على شوقها. تستمر في البحث عن علامات أخرى، عندما يدفع ثمن الكونياك إلى غرفته، تدرك أن رقم غرفته هو نفس رقم الشارع الذي نشأت فيه. “ظهر توماس لتيريزا في مطعم الفندق كصدفة مطلقة. يكتب كونديرا وهو يدرس الآليات النفسية لكيفية إضفاء المعنى على مثل هذه الصدف.
“إن حياتنا مفخخة بالصدف، أو لنكن أكثر دقة، اللقاءات العرضية بين والناس والأحداث، والتي نسميها “المصادفات”، والتي تعني وقوع حدثين غير متوقعين في الوقت نفسه، فتوماس يظهر في مطعم الفندق في نفس الوقت الذي تعزف فيه موسيقى بيتهوفن عبر الراديو. في غالب الأحيان لا ننتبه لهذه الصدف. فلو أن المقعد الذي جلس عليه توماس، جلس عليه جزار المنطقة المحلي بدلا منه، لما لاحظت تريزا أبداً أن الراديو يعزف موسيقى بيتهوفن… ولكن حبها الناشئ أشعل حاسة جمالها، ولن تنسى أبدًا تلك الموسيقى. كلما سمعتها، ستكون متأثرة. كل ما يجري حولها في تلك اللحظة سوف تحيط به الموسيقى ويكتسب جمالها.”
في الصدفة، نجد مبدأ تنظيمي للمعنى وسط العشوائية التي تحكم الكون، والذي ليست حيواتنا فيه سوى صدى. إنها الموسيقى وسط صخب الوجود. كتب كونديرا:
“الحياة الإنسانية مركبة مثل مقطوعة موسيقية، فالإنسان استنادا إلى إحساسه بالجمال، يحول حادثا عرضيا، إلى نمط، يحتل مكانًا دائمًا في تكوين حياته. فالإنسان ينسج حياته، دون إدراك منه، وفق قوانين الجمال، حتى في أكثر لحظات يأسه”.
من المهم، كما يشير كونديرا، أن نكون واعيين بالصدف، لأن عدم إدراك الصدف، تحرم حياتنا من “بعد الجمال”. لكن الاستعارة التي استعملها كونديرا، تقوض الصدفة كموجه لحياتنا، الموسيقى، بعد كل شيء، ليست ناتجة عن الصدفة، بل عن اختيار مدروس للملحن في ترتيب النغمات والسكون. تجربتنا مع الجمال هي نتاج نوعية الانتباه التي نختار أن نوليه للأشياء. سيمون دوبوفوار، التي كتبت في نفس العصر الذي كتب فيه كونديرا، اقتربت أكثر من الحقيقة المركبة، عندما تأملت كيف تتداخل الصدفة والاختيار لتشكيل حياتنا.
ومع ذلك، تمكن كونديرا من التقاط حقيقة جوهرية: يمكننا اختيار من نحب، ولكن الصدفة هي التي تتقاطع مع مصائرنا في البداية. تذكرنا الصدف بأن الصدفة قد لا تكون الموجه الوحيد لحياتنا، لكنها هي التي تمنح الحياة القدرة على المفاجأة، وعن الانحراف المفاجئ عن المسار المتوقع. تلك الارتقاءات السريعة في الروح، التي ترفع الحياة فوق مجرد الوجود وتكسوها بهالة من السحر، تجعلها تستحق العيش. يكتب كونديرا:
” الصدفة وحدها لديها رسالة لنا. فكل ما يحدث بالضرورة، كل ما هو متوقع ومُكرر يومًا بعد يوم، يبقى صامتًا.” […] الضرورة لا تعرف صيغة سحرية، فكلها متروكة للصدفة.”
المصدر: