مذكرات

محكيات الطاكسي في زمن كورونا (11)

لم يكن صعبا أن يجد في جامع الفنا بديلا عن الفقيه والرعاة، كانت الساحة تعج بمن يهزهم ذلك الهوى.

يوسف الطالبي

كان يقود سيارته عبر الشارع القادم من تارgة  في اتجاه جليز، وكان الشارع مزدحما كنهر يتدفق سيارات، كثافة حركة السير تضطره إلى الوقوف بنفس الإشارة الضوئية أكثر من مرة، في الإشارة المنظمة للدخول إلى ساحة السلاح place d’arme، أطل عليه من النافذة التي على يمينه، رجل في بداية عقده الرابع، كان في حالة مزرية، يعتمر قلنسوة صوفية نزلت حتى نصف جبينه، يحتاج جلبابه المهترئ الى نظافة ورتق، لم يكن ممن يسدلون اللحية، لكن يبدو أنه أهمل حلاقة وجهه لفترة تجاوزت أسبوعا، تتجمع بعض الشعيرات أسفل ذقنه وأخرى عند صدغيه، فيما خلا الخدان والوجنتان من أي شعر. حتى قبل أن يبدأ الرجل بالحديث، كان هو قد حرك كفه نحو الأعلى بما يعني الاعتذار عن المساعدة.
تلك الإشارة الضوئية هي الأطول وقتا بالمدينة، تنغلق لمائة ثانية وتنفتح لخمس وعشرين فقط، مائة ثانية تمنح متسعا من الوقت للمتسولين لاختبار حظهم مع السائقين، مهاجرون من افريقيا جنوب الصحراء يستذرون العطف بحمل رضعهم وعبوات حليب الأطفال، نساء يبدين ما يعرف بهن كأرامل معيلات لأيتام، شباب يعرضون مناديل ورقية وكمامات، أطفال يحرجون مرافقين لجميلات بتقديم ورود حمراء، عجزة يعرضون على السائقين وصفات طبية وعلب أدوية اتسخت وتمزقت من فرط الاستعمال، معاقون ومتظاهرون بالإعاقة، منذ مدة لاحظ اختفاء الأسر السورية الهاربة من جحيم الحرب هناك، كان ما يميزهم أنهم يشتغلون بالتسول في مجموعات، كانوا أسرا وعائلات تضم نساء ورجالا، بالغين وأطفالا، يتمنى أن يكونوا قد عادوا إلى ديارهم، ليس لأنه يكره وجودهم، ولكن رحيلهم يعني اندحار الجهاديين، يرتعب من احتمال العيش في مجتمع يحكمه منغلقون متعصبون، حيث يكون مضطرا للدخول إلى المساجد في أوقات الصلاة و إسدال اللحية وعلى زوجته أن تلتزم بارتداء البرقع تجنبا للجلد في الساحات العامة أو تطبيق الحد عليه وعليها، كيف له أن يعيش بشخصية وأفكار وممارسات هو يكن لها الكراهية والاحتقار. حين يمر مثل هذا الاحتمال في خاطره، يفضل أن يركب قوارب الموت، النجاح في الفرار أو الموت غرقا، أفضل من ان يجد نفسه مضطرا للتعامل مع وضع كهذا.
لم يكترث الرجل لما قالته الكف، أبدى إصرارا على قول ما لديه، والحق أنه في مرات عديدة غير رأيه تحت الإلحاح، فبعد أن صد متسولا عاد وغير رأيه واستجاب لطلبه، ينهزم تحليله الذي يملي عليه عدم التصدق بدعوى أن الصدقة والإحسان ليسا جوابا عن الأزمة ولن تقي البؤساء بؤسهم. لا يلمس في رأي كهذا أن يصمد أمام اختبارات الواقع، في حياته ما يدحض ذلك الكلام.
– وا خيي… الله يرحم ليك الوالدين… ويعلي شانك… ويهدم ظلّامك… ويحلي كلامك… ويغلبك على من عداك…قربني معاك لمدينة.
كان هذا النوع من الدعاء مختلفا عن أدعية المتسولين، عهده بكثرة في مجالس الزوايا والاضرحة وعند مجموعات حفظة القرآن الذين يستقدمهم الناس لتنشيط المآثم والصدقات، يتكفل به أحدهم يحفظ الكثير منه، يردده بسرعة حتى أن المستمع لا يتبينه بوضوح، يردد أيضا في مجالس المواسم السنوية والحلقات التي تنظم ليلة كل جمعة في بعض الأضرحة، منذ كان صبيا، كان يقوده تسكعه إلى ضريح سيدي عبد العزيز أو مول القصور أو مولاي الطيب أو سيدي بن سليمان الجزولي، كان يروقه سماع أناشيد الحضرة والأمداح، كانت النسوة يقدمن قرابينهن للولي الصالح ليطرد عنهن الشرور ويجلب لهن الحظ، يزوج من تأخر خطابها وتزدهر تجارة أزواجهن ويفتح عقول أولادهن للعلم والتحصيل، كان طول الدعاء وإيقاع تلاوته يتناسبان مع قيمة العطاء. تبدأ النساء في التمايل مع إيقاعات “الدعادع” و “الطمطمات” و “النويقسات” و يرتفع الإيقاع فتدخلن في رقصات جدبة كأنهن يتلقين ضربا مبرحا. كانت تلك الطقوس تسافر به إلى عوالم يصعب وصفها.
لكل ولي صالح تخصص، يقصده من بنفوسهم ضيم وكدر، يختص مولاي ابراهيم في تزويج العانسات وإنجاب الذكور، ويطبع “مول الطابع مول القصور” خبزة الرزق والتجارة، وكان على من يطلب إتقان حرفة أن يأكل الزبيب بإبرة الخياط في ضريح سيدي بالعريف، ومن كان مولعا بالموسيقى وأحب تعلم عزف آلة ما، قصد زيارة ضريح سيدي بولgنابر، ومن كانت أمنيته امتلاك بيت يعلق قفلا بشباك نافذة سيدي عبد العزيز ويلتزم إذا “تقضات الحاجة” أن يعود ويفتحه ويفي “بالمرفودة”.
رجعت به تلك الأدعية إلى بعض “لحلاقي” في ساحة جامع الفنا، خصوصا منها تلك التي تتوسل بحضوتها ونسبها إلى بعض الأولياء الصالحين، وكان منهم حلقة الرمى والشيوخ، كان منشطو هذا النوع من الحلاقي يصنعون لأنفسهم وضعا اعتباريا، حيث يعتبرون أن وجودهم في ذلك الحال قدرا لم يكن لهم فيه دخل، وأن الله و “صلاح” البلاد اختاروهم ليكونوا فيما هم فيه، وعلى الناس “التسليم” بمشيئة الله والصالحين، وإكرامهم وطلب ودهم وتجنب غضبهم، “واللي تعجب يتبلا”.
شمر جلبابه على ركبتيه قصد ركوب السيارة، وحين دفع برجله اليسرى، كشف عن حذاء يمد منقارا إلى الأمام، صار بلا لون مما تراكم عليه من تراب، كان من تلك الأحذية التي يفضلها ممارسو النقر بالأقدام على الجفنة.
ازداد الشريفة بدوار اولاد الرامي بفخدة النواصر بقبيلة احمر، سمي الدوار على اسم جد أعلى له، يخلد الناس ذكره بكراماته في الرماية، كان راميا فوق العادة، كان “كيضرب على الحس” يغمض عينيه ويركز على صوت أجنحة الحجلة أو صوت أقدام الأرنب، و كان لا يفلتها، مهارات لا يمكن اكتسابها مهما كانت التداريب، لكنها كانت معجزة جادت بها عليه السماء، ورث منه أحفاده هذا “الحال”، فكانوا يجيدون اللعب بالبنادق، يجعلونه تدور على معاصمهم وأعناقهم وخصورهم ثم يرمون بها عاليا و يلتقطونها دون أن تلامس الأرض.
كانت حلقة الرمى بجامع الفنا لا تبدأ إلا عصرا، وكانت من “الحلاقي” الكبيرة التي تجمع عددا كبيرا من المتابعين، كان زوار المدينة من القرى والمدن الأخرى يتابعون عروض الحلقة بنظرات مشدوهة، ينظرون إلى بعضهم البعض ويتبادلون نظرات وضحكات الإعجاب والاندهاش، كان أكثر ما يثير اهتمامهم في الحلقة هو الشريفة، شخص بملامح رجل يغطي وجهه بنقاب نسوي، ويضع على رأسه تاج العروسات مرصعا بمتلألئات لها لون الذهب، يلبس قفطانا ويلف خصره بحزام عريض مغطى بأقراص معدنية فضية اللون. يرقص على أهازيج الغيطة والطبل والطعريجة والبندير، يهز خصريه بسرعة تساير الإيقاع، يجعل الأقراص المتدلية من الحزام تحدث “سرسرة”، يطوف على الحلقة و يتلوى كما تتغنج الراقصات، وفي تمثيليات تقدمها الحلقة، كان الشريفة يلعب دور العروسة الجميلة الصغيرة التي ترفض تسليم نفسها يوم الدخلة لمن زوجوه إياها، لأنها تفاجأت أنه عجوز هرم، ودور الزوجة المعنفة التي تقصد الفقيه ليكتب لها تميمة تهزم بها زوجها لكنه يقع في سحر جمالها. كانت حلقة الرمى تأخذ ألباب زائرات مراكش، فينصرف انتباههن عما يفعله المحتكون بمؤخراتهن، وكانت أصابع النشالين تغير على ما في الجيوب والحقائب اليدوية.
ليلة ولد الشريفة، لم تزغرد القابلة لامرة ولا ثلاث، حين تأتي ساعة الوضع، كان الزوج يبقى في الخارج، ينتظر زغردة القابلة إيذانا بانتهاء الولادة بخير، إن كان ذكرا تزغرد ثلاث مرات، وإن كانت أنثى تكتفي بواحدة، لكن حين نظرت القابلة إلى حجر الوليد لم تستطع أن تميز إن كان ولدا أو بنتا، كان العضو يشبه كليهما، لحيمة قد تكون قضيبا صغيرا إلى جانب فتحة قد تكون بضرا، إن لم تزغرد القابلة، فإن ذلك يعني أن الوضع لم يجر على ما يرام، وقد يكون انتهى بموت الأم أو الوليد أو هما معا. منذ يوم ولادة الشريفة بدأت معاناته، من الناس من اعتبره من الجن أو مسكونا بروح غير بشرية، وعند اختيار اسم له حار ذووه ما إن كانوا سيطلقون عليه اسم بنت أم إسم ولد، عندما بدأ يقف، كان بوله يسيل على فخديه حتى قدميه، فعلمته أمه أن يتبول مقرفصا، كان الأولاد يرفضون أن تشاركهم بنت ألعاب الذكور، وكانت البنات يرفضن حضور ولد بينهن، وعندما بدأ أقرانه وقريناته يصومون رمضان لم يحض الشريفة ولا احتلم. لكنه كان يستمتع حين يختلي به فقيه الجامع الذي يحفظ الأطفال القرآن، تألم في المرات الأولى، ثم ما لبث أن بدأ يتعمد التأخر بعد مغادرة الآخرين، وكان بعض من الرعاة يفعلون معه الشىء نفسه حين يبتعد عن الدوار خلف نعيجات أبيه، لكنه لم يتذمر قط، انهزم أبوه أمام ذلك، ضربه بقسوة وسجنه في غرفة ومنع عنه الطعام لكن كل ذلك لم يجد، فسلم أن الشريفة يسكنه جني لن تخرجه منه التمائم والرقية، فقد جاءا إلى الدنيا معا بدم ولحم وروح مشتركين، بعض الناس سلم بالأمر والبعض ظل يعير الاسرة به كلما توثرت العلاقات.
كان على الشريفة أن يجد عملا ينشغل به، يعيش منه ويساعد به أسرته، وكان البحث عنه إحدى المشكلات الكبرى التي واجهها، لا يسمح الرجال بتركه مع النساء في البيت، ولم يكن يقبل به في العمل في الضيعات وأوراش العمل الشاق لضعف احتماله، ولعل الناس كانوا يتهربون من تشغيله تجنبا لما يمكن أن تصيبهم به لعنات الجن الذي يتلبسه. وحتى عندما هاجر إلى مراكش ليجرب حظه هنا، كان من يقصدهم طلبا للعمل يكرهون صوته وحركاته المتأنثة، إذا ضاق به الحال واستبد به اليأس، يقصد حلقة الرمى بجامع الفنا، كان يعرف بعضا من منشطيها، تستهويه أهازيجهم التي تعيده إلى ذكريات قريته والافراح التي كان يندمج فيها مع ضربات الطبل ونغمات الغيطة، يرقص حتى يغمى عليه. كان يسبق الفرقة إلى الساحة، يظل ينتظر بدء حلقة الرمى، وحين يأتون، يقتعد الأرض حتى إذا ما حمأت الإيقاعات أطلق العنان لروحه لترقص وتتجرد من كل الأعباء التي تكدر حياته، صار دون سابق تخطيط جزءا من العرض يشد الناس إلى الحلقة، وسيتطور الأمر إلى إبداع البدلة النسائية. لم يكن صعبا أن يجد في جامع الفنا بديلا عن الفقيه والرعاة، كانت الساحة تعج بمن يهزهم ذلك الهوى.
كورونا جرم سماوي اصطدم بالأرض، وكانت جامع الفنا هي نقطة اصطدام الكوكبين، حين أخلتها الحكومة من كل الزحام والجلبة التي كانت تطبعها، صارت كجثة هامدة غادرتها الروح تنتظر ممددة إتمام مراسيم الدفن، لم يتصور المراكشيون أن يكتب لهم أن يروا الساحة في تلك الحالة، أما من كانوا يعيشون فيها وحواليها، فقد صاروا بدون جامع الفنا أشخاصا آخرين مختلفين، حتى من كانوا يسمونها جامع “البلا” ولا يرون فائدة منها غير كونها تجمعا للمنحرفين والشواد وكل من لا أخلاق له، صارت تقشعر أبدانهم وهم يعبرونها صامتة هادئة، وعى المراكشيون أن جامع الفنا ليست فقط هي ذلك المكان المنبسط بين عرصة البيلك وجامع خربوش ورياض الزيتون القديم وفحل الزفريتي، ولكنها تمتد حتى وجدان كل واحد فيهم، باتت جزءا من هويتهم كمراكشيين.
وجد الشريفة نفسه عاطلا عن العمل، ما يشبه المدرسة في القرية لم يمنحه ما يؤهله ليحضى بحياة جديرة بالبشر، وأخطاء الطبيعة لم تيسر اندماجه مع الناس، تفرقت فرقة الحلقة، عاد إلى قريته منهم من لا تزال عائلته هناك، فيما انشغل الذين جلبوا أسرهم للسكن بمراكش بإيجاد نشاط بديل، فقد صار الطبال عابد حارسا ليليا في أحد أزقة سيدي عباد، وعمل عبد العاطي في وحدة لصناعة آجور البناء، أما الشريفة فقد قطع كل صلة له بالقرية عندما لبس القفطان والنقاب، لم يتوصل من الدولة بأي مبلغ على سبيل الدعم، فلا بطاقة رميد ولا رقم تصريح بالضمان الاجتماعي، وحتى في خانة الممتهنين لأنشطة غير مهيكلة، لم يكن لديه عنوان قار يصرح به، انضاف الشريفة إلى جيوش المتسولين الذين تضاعفت أعدادهم، كان خارج حسابات الدولة كما كان قبلا ودائما خارج كل قيم المجتمع وتسامحه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى