محكيات الطاكسي في زمن كورونا تتواصل مع يوسف الطالبي (4)
يوسف الطالبي
كانت عادته أن يمر على الخضار ليتزود بما يكفي لثلاثة أيام أو أربع، في الغالب يمر عليه مرتين في الاسبوع، وفي بعض الأحيان يضيف إلى الخضر شيئا من الفواكه، يقتصر على الليمون و الموز والفراولة، يؤلمه أن يشعر أطفاله بالحرمان، أو لعله في الحقيقة يريد أن يظهر بمظهر أب مثالي، أن يهرب من إحساس يلازمه دائما، إحساس بكونه فاشلا عديم الفائدة، يريد أن ينحث لنفسه صورة كالتي نحثها أبوه عن نفسه، ناذرا ما يدخل البيت بيدين من دون كيس فاكهة أو بطيخة كبيرة. في زمن كورونا، ضغط على نفاقاته ليناسبها مع دخله الشحيح، من قبل كان يتبضع بشهيته وعينيه، أما الآن فهو يفعل بعقله وحسابات كورونا.
نشأت بينه وبين الخضار زروال علاقة صداقة، كان يقضي في دكانه وقتا أطول مما يلزم للتبضع، بل في الأيام التي لا يعمل خلالها، وعندما يكون الطاكسي لدى السائق الثاني الذي يتناوب معه عليه، يقصد دكان صديقه الخضار، يقتعد كرسيا خشبيا صغيرا، او علبة خضر فارغة، يتكفل بإعداد الشاي، بينما صاحبه يخدم الزبناء ويرتب الخضر لتفتح شهية المتسوقين، مواضيع عديدة ومختلفة تنشط جلستهم، صراع المؤذن والإمام حول تبرعات المصلين بمناسبة عيد الأصحى، زيارة البوليس للحي بحثا عن مروج حشيش، أحاديث في السياسة، التذمر من سوء أخلاق جيل الحالي، قصص غرامية يظن طرفاها أنها طي الكتمان، خيانة الزمرانية لزوجها الجندي الذي يغيب بحكم عمله لثلاثة أشهر قبل أن يحضر لقضاء ثلاثة أساليع في بيته.
– واش هذا الكوزيني ولد الفقيه أسي زروال؟!
توجه الى زروال بالسؤال دون أن تحيد عيناه على متابعة سيارة نقل بضائع هوندا، كان السؤال محملا باندهاش كبير! لا يستطع الجزم بنفسه ما إن كان السائق هو نفسه الكوزيني بندادة، أم تشابه عليه، كانت السيارة محملة حتى نصف سعتها بفاكهة الماندارين.
بندادة طباخ رئيس بفندق مصنف يقع في الحي الشتوي، واحد من أبناء المرحوم عبد الرحمان إمام وخطيب مسجد باب دكالة، داوم على إمامة المصلين كل يوم جمعة حتى أعجزه المرض عن الخروج للمسجد، عرف بورعه واستقامته، كان محبوبا وسط سكان الحي، يستشيرونه فيما استشكل عليهم من أمور دينهم، يصلح ذات البين بين المتخاصمين، كما كانوا يتوسلون بحسن طالعه في زيجاتهم وتجارتهم، وكان بعضهم لا يدخل منزلا أو دكانا اشتراه إلا بعد أن يرقيه الفقيه بندادة، يطردون بذلك النحس والشرور العالقة به، ويجلبون الخير والبركات وحسن الحظ.
أغلق الفندق أبوابه وتُرِك عبد الباري الكوزيني الرئيس للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، كان كل ما يتقاضاه كتعويض عن التوقف عن العمل هو مبلغ ألفي درهم شهريا، بعدما كان راتبه يصل خمسة عشر ألف درهم دون الحوافز والعلاوات التي يخصصها الفندق للأطر ورؤساء المصالح تشجيعا لهم على الاجتهاد، وكان عبد الباري يدعم دخله بنشاط ثانوي ومتقطع، فقد كان بعض ممولي الحفلات والمؤتمرات يطلبون خدماته، مما كان يدر عليه دخلا إضافيا، وفي أكثر من مرة طلب عطلة من إدارة الفندق، ورافق خليجيين في رحلات قنص بمناطق ايت بوكماز وزاوية أحنصال ومناطق أخرى بمحميات إقليم أزيلال، خرجات قد تمتد حتى أسبوع كامل، يتكفل هو برئاسة فريق إعداد طعامهم.
مرور ولد الفقيه من الحي لا يكون غير ملحوظ، سيارته الجميلة واللماعة، وملابسه المنتقاة والمختارة بذوق وحسن تنسيق، ساعاته الكبيرة الحجم، تضفي عليه وقارا وبهاء، ثم رائحة العطر التي تفوح منه، كل هذا و الطيبوبة وما زرعه فيه والده من مكارم الأخلاق، جعل الناس تجمع على الإشادة به.
كان ولد الفقيه يعيش حياة صممت على قدر دخله، ابنه وبنته يدرسان بمدرسة خاصة بشارع محمد السادس، السيارة وعدد من أسباب الراحة في المنزل يمولها بقروض بنكية تكلفه اقتطاعات شهرية، ظلت بدون سداد منذ بداية الجائحة، وعد الحكومة بوقف أقساط الديون كان وعدا دون تطبيق، كل ما قامت به الأبناك هي دفع المقترضين إلى توقيع طلبات تأجيل السداد لمدة ثلاث أشهر، لكن بفوائد إضافية.
بعد انصرام الأشهر الثلاثة بدأ هاتف عبد الباري يستقبل رسائل بوجوب تسوية وضعيته المالية إزاء المؤسسة المانحة للقروض، ولم يكن قرار المدرسة إعفاءه من ثلاثين بالمائة من مصاريف الدراسة كافيا ليجعله قادرا على سداد ما تراكم بذمته، وحتى لما نصحته زوجته بنقل الأولاد إلى مدارس عمومية، لم يستسغ الأمر، ثم إن المدرسة لن تمكنه من شهادتي المغادرة قبل تسديد ما بذمته، فواتير الماء والكهرباء أيضا عالقة.
الوضع غذا كارثيا، كان على عبد الباري أن يتصرف إزاءه، استأجر مطعم وجبات سريعة مجهزا بحي سيدي عباد أملا في توفير دخل بديل يعوض أجره المتوقف، لكن قرارات الحكومة بإغلاق المطاعم والاقتصار على خدمة (emporté) جعله يعجز عن الوفاء بواجب الكراء المرتفع وأجور العاملين اللذين وظفهما. السيارة التي اقتناها قبل ثلاث سنوات يتعذر بيعها والمناورة مجددا بثمنها، فهي مرهونة للبنك، ومصالح تسجيل السيارات لن تصادق على نقل ملكيتها، وحده صهره قبل من باب المساعدة ووفاء للعلاقة المثينة التي تربطهما شراءها منه في تلك الوضعية.
اشترى عبد الباري بثمن سيارته هوندا، وطلب مساعدة زروال الخضار، الذي أخذه معه الى سوق الجملة للخضر والفواكه، اشترى في اليوم الأول شحنة ليمون من ذلك الذي تبيعه وحدات التلفيف، بعد ان يكون قد أفرز مما تتوفر فيه شروط التصدير، في السوق يصطلح عليه باسم الروتور (le retour).
كانت البداية صعبة للغاية على عبد الباري، أن يتخلى على أناقته ومستوى الحياة التي كان يحياها سابقا، وأن يقف بساحة عامة ويشرع في النداء على الزبناء بإشهار ثمن ما يبيع من بضاعة، هو انتحار اجتماعي، يتدافع مع “العروبية” وأصحاب الكاروات. وظف لتلك المهمة شابا يافعا، ينادي المتسوقين، ويغريهم بانتهاز فرصة عرض سلعة جيدة بثمن بخس، وكان عبد الباري يجلس إلى جانب الهوندا يتقاضي من الناس مقابل ما اقتنوه منه، يعلق في عنقه محفظة يضع فيها المال، لم تكن تجربة الشحنة الأولى سيئة، فقد نفذت خلال يومين ونصف، استرجع رأسماله وأدى أجر مساعده، وفاض بعض المال للإنفاق على سيارته وأسرته، الأهم هو أنه استطاع اختراق حاجز الحرج من وضعه الجديد، وإن كان يكره أن يلتقي أصدقاءه وزملاءه ومرؤوسيه وهو في ذلك الحال.
منذ دجنبر الماضي توقفت الدولة عن صرف مبلغ الألفي درهم التي كان تمنحها كتعويض لمستخدمي القطاع السياحي، يتحسر عبد الباري على الألف درهم التي يشير إليها البيان الشهري للأجر كاقتطاع لفائدة الصندوق الوطني للضمان الجتماعي التي ظلت طيلة حياته العملية تقتطع من راتبه بذريعة أنها تذخر له ليوم الحاجة، وحين حل يوم الحاجة لم يجد إلا السراب.