ثقافة

ما بين بني ملال وبني هلال

بقلم عبد الرزاق بن شريج

عاش سعيد عمره كلّه في البادية، بين نسيمها العليل وأعشابها التي يعرفها ورقةً ورائحة؛ كان، كلّما شعر بالألم، يلجأ إلى الطبيعة الأمّ: يجمع من نباتاتها ما يداوي به جسده وطمأنينته، وإذا اشتدّ عليه الوجع قصد مولاي “بوعنان”، وإن طال به المرض، طرق باب الفقيه سي محماد السوسي، الذي يكتب له “تعويدة” تقيه، كما يقول، المسّ والجنّ والمرض.
كان سعيد يعيش بسلام وسط دجاجه وغنمه، يألفها وتألفه، يحدّثها كأنها بشر، لكنه لا يتردّد في ذبحها أو بيعها عندما تفرض الحاجة ذلك.
مرّت مناسبات كثيرة وأفراح في المدينة، حيث يقطن أبناؤه الثلاثة: ولده وبنتاه، ومع ذلك، لم يزرهم يومًا؛ المدينة بالنسبة له غريبة، مزدحمة، خانقة، لا مكان فيها لأنفاس البادية الهادئة.
لكن القدر شاء أن يُخرجه من عزلته، حين توفي زوج ابنته الصغرى سلوى، لم يجد بدًّا من السفر، فالموقف موقف وفاء ومؤازرة. كانت سلوى منكوبة، أرملة، أمًّا لأطفال صغار، بلا عمل ولا سند. قضى اليومين الأولين من مقامه بالمدينة في العزاء، بين الوجوه العابسة والدموع المكبوتة، وفي الليلة الثالثة، سقط منهكًا على فراشه ونام نومًا عميقًا، لكن ليلة اليوم الرابع حملت له تجربة لم يعرفها من قبل.
استيقظ فجأة على ضجيج لا ينتهي: صوت السيارات يتناوب مع محادثات المارة وضحكاتهم. تذكّر ليالي موسم مولاي عيسى بن إدريس، عندما كان ينام في الخيمة ويسمع أنفاس المارة من قريب، لكن الأمر هذه المرة كان مختلفًا…
في السكن المشترك، خاصة الشقق المطلة على الشارع، بدا له النوم مستحيلًا:
كلّ شيء يعلو فوق صمته الداخلي — نباح كلاب حارس السيارات، مواء القطط الشارع وهي مدعورة من الكلاب، شجارات المخمورين، صراخ المشردين، وحتى دمدمات السيارات التي لا تهدأ. قضاها ليلةً في الجحيم.
وحين بزغ الفجر، خرج متعبًا نحو المسجد لأداء الصلاة، ثم قرّر أن يعود إلى البادية.
توجّه نحو محطة سيارات الأجرة، محمّلًا بالشوق والخذلان.
لكن المدينة لم تتركه يرحل بسلام.
في أحد الأزقة، باغتته عصابة من المشردين، انهالوا عليه ضربًا، وانتزعوا منه بلغته وجلبابه الجديدين، وسلبوا محفظته “الشكّارة”، تلطّخت لحيته بالدم، وارتجّ كيانه من الهول.
وقف حائرًا:
هل يعود إلى شقة ابنته؟ لا يمكن أن يزيدها همًّا فوق همّ فقد زوجها.
لكن كيف يسير في الشارع دون جلباب، والبرد يلسع جسده والعيون تلاحقه بالشفقة أو الريبة؟
فالخروج إلى الشارع دون جلباب مصيبة، يتخيل أنه يسير عاريا، …
جلس منكمشا أمام باب دكان، ينتظر أن تدبّ الحركة في الزقاق، بعض المارة ظنّوه متشرّدًا أو مجنونًا، فابتعدوا عنه كأنّه وصمة، خاصة أن لحيته ملطخة بدم الرعاف، …
إلى أن أطلّ عليه سائق سيارة أجرة كان قد رآه من قبل. رقّ لحاله، أقله مجانًا إلى محطة الحافلات، بل وزاد على ذلك فأعطاه ثمن التذكرة.
لكن القدر أصرّ على أن يواصل لعبته الغريبة:
حين وصل سعيد إلى المحطة، ركب بالخطأ حافلة بني هلال بدلًا من بني ملال…
وراح الطريق يبتلعه نحو مصيرٍ لم يدرِ له وجهة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى