كريم العراقي شاعر الرافدين والذاكرة العربية يترجل.. تاركا أشعارا خالدة
لوسات أنفو؛ إ.م.بنصالح
تعيش الساحة العربية عموما والعراقية بشكل خاص، حزنا وصدمة عقب الإعلان أمس الجمعة عن رحيل الشاعر العراقي الشهير كريم العراقي في مستشفى كليفلاند بأبوظبي، حيث كان يتلقى العلاج من مرض السرطان، الذي تمكن من جسده وأنهى مساره الحافل بدون استئذان..
اشتهر العراقي الذي رحل عن دنيا الناس في سن ناهز 68 عاما، بتأليف الأشعار وكلمات الأغاني، إذ تعاون مع كبار المطربين أمثال حسين نعمة وسعدون جابر ورضا الخياط، كما شكل ثنائيا ناجحا مع كاظم الساهر الذي ألف له نحو 70 أغنية.
تعد قصائد العراقي خير معبرٍ عن العراقيين خلال الظروف الصعبة التي عاشوها، إذ كتب في هذا الصدد عن الحصار الاقتصادي الذي تعرّضت له بغداد في تسعينيات القرن الماضي، وقصائد حماسية للجيش العراقي خلال حربه مع إيران أشهرها “الشمس شمسي”.
ومن أشهر قصائده “الشمس شمسي والعراق عراقي/ ما غير الدخلاء من أخلاقي/ داس الزمان على جميع مشاعري فتفجر الإبداع من أعماقي/ أجريت في الصخر العقيم جداول وحملت نور الله في أحداقي/ أنا منذ فجر الأرض ألبس خوذتي ووصية الفقراء فوق نطاقي”.
مسار متشعب ينبض شعرا..
وُلد كريم عودة (اسمه الحقيقي)، في منطقة الشاكرية بالعاصمة العراقية بغداد عام 1955، ودرس علم النفس وموسيقى الأطفال في معهد المعلمين. وعقب تخرّجه عمل معلما لعدة سنوات، إلا أن شغفه الرئيسي تعلّق بالشعر والأدب، وهي الهواية التي أظهرها منذ أن كان طالبا في المرحلة الابتدائية ليتمكن من الكتابة والنشر في العديد من المجلات العراقية.
عمل كريم العراقي معلما في مدارس بغداد لعدة سنوات، ثم مشرفا متخصصا في كتابة الأوبريت المدرسي، وعقب حصوله على دبلوم في علم النفس وموسيقى الأطفال من معهد المعلمين في بغداد، بدأ بالتأليف والنشر في المجلتين الذائعتين الصيت أنذاك مجلة “المتفرج”، و“الراصد”. ثم استمر بعدها في نشر قصائده عبر “الإذاعة والتلفزيون”. وهكذا برز تنوع اهتماماته حيث شملت كتابة الشعر الشعبي والأغنية والأوبريت والمسرحية والمقالة، فضلا عن ولعه بالثقافة والأدب والمسرح والسينما.
وعقب الحرب انشغل بكتابة روايات للأطفال ومسرحيات وقصائد غنائية غنّاها عشرات المطربين في جميع أنحاء العالم العربي، أبرزهم كاظم الساهر الذي شكّل معه ثنائيا ناجحا.
كريم العراقي الشاعر الذي كتب نصوصه بأساليب مختلفة.. وكان اسمه طريق نجاح للكثير من الفنانين..
تنقل الشاعر بين سحر الكلمات وعبقها، ومن كتابة الشعر الغنائي إلى تأليف القصص والروايات والبرامج التلفزيونية والأفلام السينمائية وكتابة المقالات وتحرير المجلات المدرسية، لينتهي بما بدأ به مساره وهو كتابة الأغاني والقصائد الشعرية، هو ابن العراق، الذي اختار أن يحمل اسمه طوال مسيرته الإبداعية والحياتية.
كريم عودة المعروف باسم كريم العراقي شاعر العراق المعاصر، الذي أرسل له الراحل نزار قباني رسالة تغزّل فيها بقصيدته التي غناها كاظم الساهر كموال بعنوان “يا دنيا إنتي إلي حرمتيني من أهلي”، صار اسمه وسيلة موثوقة للوصول إلى الجمهور العربي عندما يوضع على أيّ أغنية، إذ تخطى حدود الشهرة ليضع اسمه في تاريخ الغناء العربي.
أول مؤلفاته المنشورة كانت عام 1974 وهي ديوان “للمطر وأم الظفيرة” من الشعر الشعبي العراقي، بعدها كتب العديد من الروايات والحكايات منها حكايات شعبية بعنوان “ذات مرة”، كما كانت للأطفال حصة كبيرة من كتاباته حيث نُشرت له روايات كثيرة، منها “الخنجر الذهبي”، “الشارع المهاجر”.
أما عن أب الفنون المسرح، فلم يكن بعيدا عن خيال العراقي الذي كتب عددا من النصوص للخشبة، أهمها “يا حتوتة يا منحوتة” و”عيد وعرس” و”دنيا عجيبة”، لتسرقه السينما، ويقوم بكتابة قصص وسيناريو وحوار لأفلام سينمائية مثل “عريس ولكن”، “افترض نفسك سعيدا”، وغيرهما.
قدم العراقي للتلفزيون تجربتين مختلفتين، الأولى كانت إعداد وتقديم البرنامج التلفزيوني “في ضيافة الأغنية”، أما الثانية فكانت كتابة سلسلة تلفزيونية بعنوان “مناجاة للواحد الأحد” عرضها راديو وتلفزيون العرب.
يصنف النقاد وخبراء الموسيقى العربية بأن أفضل أغنيتين قدمت للأم هما “ست الحبايب” لفايزة أحمد، و”يا أمي يا أم الوفا” لسعدون جابر، التي كتب كلماتها كريم العراقي وهو في عزّ شبابه، وكانت سببا كبيرا لانتشار سعدون عربيا، كما ساهم في شهرة الفنان كاظم الساهر الذي ألف له عددا من الأغاني.
كانت بداية العراقي الفنية مع سعدون الجابر الذي كان متسيدا على الساحة الفنية العراقية قبل صعود الساهر إليها، مما مكنه ذلك من التعاون مع الراحل بليغ حمدي، وذلك في بداية الثمانينات، عندما لحن أربع أغنيات من كلام العراقي وغناها سعدون جابر.
استفاد الشاعر من التنوع الشعري في العراق، إذ يصفه بأنه عجيب وغير موجود في أغلب الدول العربية، وهو ليس محصورا بمنطقة واحدة، ولذا كتب بأنفاس متعددة في الفصحى والعامية وبأساليب مختلفة وفي مواضيع متنوعة من العاطفي إلى الاجتماعي إلى التأملات الوجودية وغيرها من نصوص شعرية راسخة في وجدان محبي الشعر.
سنين المرض.. صراع مع الجسد والعقل للتشافي بالكتابة..
منذ قرابة ثلاث سنوات أصيب الراحل كريم العراقي بمرض السرطان، وحظي برعاية محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات الذي أمر بعلاجه داخل مستشفى “كليفلاند” في أبو ظبي، حيث لفظ أنفاسه بإحدى أسرته. كما خضع لأكثر من عملية جراحية وعددٍ من جلسات العلاج الكيميائي، لكن أياً منها لم يفلح في تحسين حالته الصحية.
انتشر المرض في أماكن متفرقة من جسد الراحل، حتى فقد الرؤية وتساقط شعره، ونال تعاطفا من جميع مسؤولي العراق الذين حرصوا جميعا على التواصل معه والشد من أزره. وتكريما لمساره قرّرت الحكومة العراقية إصدار طابع بريدي يحمل صورة كريم العراقي، أُرسلت نسخا منه إليه، وهو راقد على سرير المرض، وهو الاعتراف الذي أسعده كثيراً.
بعدها تلقّى العراقي ضربة أقل ما يقال عنها أنها تقسم الظهر وتحطم النفس، إذ أُبلغ عن إصابة زوجته بنفس المرض الذي يعاني منه، الأمر الذي استدعى نقلها إلى مستشفى آخر للعلاج.
وكدأب كل مفكر لا يجد شفاؤه إلا بالكتابة، عمل العراقي خلال جلسات العلاج الكيميائي، على تأليف سيناريو الجزء الأول لفيلم “أنا ابن كلكاميش” الذي كان بالأصل مسرحية غنائية سيقوم ببطولتها كاظم الساهر، إلا أن صعوبات حالت دون تحقيق هذا المشروع منذ سنوات طويلة، فقرّر تحويلها إلى عمل سينمائي.
وحتى اللحظة الأخيرة لم ينقطع العراقي عن كتابة الشعر، فخلال فترة رقوده في المستشفى ألّف 55 قصيدة، وسمها بعنوان “على سرير الأمل”. إذ جسد بتوصيف قوي معاناته في بيت شعري قال فيه:”صبري أقوى من مرارتها” في تعبيره بأنه أقوى من الحقن الكيميائية التي تنخر جسده، وكتب أيضا “الصبر يعرف من أنا منذ الصبا/ وشمٌ له في أضلعي منحوت”.
خلّفت هذه التجربة المؤلمة في نفس كريم العراقي نُضجاً كبيراً دفعه لمراجعة بعض قصائده القديمة والإعراب عن رغبته في تغيير بعض كلماتها. تلك الأيام من حياته لم يجد معبراً عنها خيرا من اقتباس سطر من “ملحمة كلكاميش”، يذكر “أنتَ الذي رأيتَ كل شيء”، وهو ما أسقطه على نفسه “نعم، أنا الذي رأيت كل شيء”.
رحيل مفاجئ ..ونعي حزين لأبو ضفاف الراحل للضفة الأخرى..
أصدر المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بيانا نعى فيه الراحل قائلا: “بهذا الفقد يكون الوسط الثقافي والساحة الفنية العراقية قد خسرت شاعرا معطاء ترك أثرا مهما في ذاكرة العراقيين الفنية” .وأشار البيان إلى أن السوداني وجه باستكمال الإجراءات المتعلقة بنقل الجثمان من دولة الإمارات ليوارى الثرى في مسقط رأسه العراق. أيضا حرص مسرور بارزاني رئيس حكومة إقليم كردستان على الإعراب عن “خالص التعازي والمواساة إلى أسرة الفقيد وأصدقائه ومحبيه”.
كما نعاه عدد كبير من الفنانين العرب عبر وسائل التواصل الاجتماعي منهم التونسي صابر الرباعي واللبناني عاصي الحلاني والإماراتية أحلام والأردنية ديانا كرزون.
وجاء نعي كاظم الساهر عبر صفحته الرسمية على “إنستغرام” مدونا: “الصديق ورفيق الدرب الأستاذ كريم العراقي في ذمة الله”.
كما كتب الشاعر العراقي عبدالرزاق الربيعي: “بعد أكثر من 90 جرعة كيماوي وما يزيد عن 25 عملية جراحية، فعلها (أبو ضفاف) وانتقل للضفة الأخرى.. تغمدك الله بواسع رحمته”.
ومن جانبه حرص الفنان نصير شمة على توديع صديقه الحميم كاتبا: “كان ينبض شعرا وكلماته كانت مرسومة بقلبه وعاطفته وحكمته. امتلك موهبة فريدة استطاع من خلالها ملامسة القلوب والعقول وإلهام الآخرين، بصمته الإبداعية نستطيع ان نراها في كثير من الشعر”.
ترجل عن صهوة الحياة شاعر كبير، سيذكر التاريخ أن ابتسامته لم تفارق يوما محياه حتى في لحظاته الأخيرة.. تاركا وراءه أشعارا تخلد في الذاكرة.