في ذكرى ميلادها…نازك الملائكة شاعرة تحررت عبر “الكوليرا”
"كل قصيدة أترجمها أصبغها بلون المرحلة الشعرية التي أعيشها. لذلك كانت الترجمات في «عاشقة الليل» تحمل ألوان شعري، وصور أفكاري أنا- وهذه صفة كل ترجمة دقيقة: لا بد أن تحمل الكثير من روح مترجمها"
لوسات أنفو: إلياس أبوالرجاء
بالبلاد التي أنجبت البياتي والجواهري والسياب وسعدي يوسف وغيرهم، ولدت نازك صادق الملائكة ببغداد في 23 من غشت 1923. حيث يصادف اليوم، 23 غشت، ذكرى ميلاد رائدة الشعر الحر أو شعر التفعيلة، التي انتقلت بالقصيدة العربية من النمط التقليدي العمودي إلى ما يعرف اليوم بالشعر الحر.
أصدرت نازك الملائكة عددا من الدواوين الشعرية، وكتبت قصيدتها الأشهر “الكوليرا” عام 1947، بالنمط الإيقاعي الجديد المتحرر من صرامة الشطرين والقافية الموحدة، حيث جعلت هذه القصيدة من نازك الملائكة واحدة من أبرز الشاعرات العربيات التي حملن على عاتقهن مهمة التجديد.
وتخليدا لذكرى رحيل هذه الشاعرة المبدعة، اخترنا العودة بكم إلى إحدى حواراتها الذي أجرته معها الدكتورة هناء البياتي عام 1984، ثم نشر بعد ذلك في مجلة “الجديد في عالم الكتب والمكتبات” عام 1995.
كنا حريصين، ونحن نصدر هذا المحور عن الشاعرة الرائدة نازك الملائكة، أن يكون للمجلة حديث خاص معها. إلا إن ظرفها الصحي، الذي تمر به منذ سنوات، حال بيننا وبين تحقيق ذلك. وقد وجدنا في الحديث الذي خصتنا بـه الدكتورة هناء البياتي ما يعوض، بعض الشيء، عما أردنا، رغم أنها أجرتـه معـها الـعـام 1984، يوم كانت تحضر لنيل الدكتوراه في الأدب الحديث، في «جامعة جلاسكو» بالمملكة المتحدة. إن الدكتورة البياتي- التي قدمت أطروحتها الجامعية عن شعر نازك، ونالت عليها درجة الدكتواره العام ۱۹۸٩- حصرت أسئلتها كما قالت لنا – في موضوع محدد، فركزتها فيما رأت نفسها في حاجة إليه، وهـي تكتـب الفصـل الذي وضعته تحت عنوان: «كيتس، وشيلي، وبايرون فـي شـعـر نازك الملائكة، – فجاءت إجابات نازك- على قصرها، وعلى ما فيها من اختزال-مكملة لبعض الجوانب التي تحدثت عنها في ما كتبته تحت عنوان: «لمحات من سيرة حياتي، وثقافتي» – التي ننشر نصها الكامل ضمن هذا المحور.
* أكثر من ناقد ممن تعرضوا لشعر نازك الملائكة بالدراسة، والنقد أشـار، بل وأكد أنها «شاعرة رومانسية»، وأنها «وريثة الـرومـانـسـيـة الـعـربيـة» التي بدأت مع «جـمـاعـة أبـولو» في الثلاثينات. وقد أكدت نازك نفسها تأثرها بواحد من أبرز شعراء الرومانسية العربية: على محمود طـه. ولكنها مع ذلك قالت – حين عرضت هذه الوقائع أمامها.
** ليس هناك شيء اسمه «الرومانسية العربية»، والشعر العربي، في أول القرن العشرين، اتجه اتجاهات عاطفية ذاتية، وكان ذلك تطورا في الشعر العربي القديم.
. * و«الرومانسية الإنجليزية»، أي تـأثيـر كـان لـهـا عـلـيـك؟ خصوصا وأن ديوانك الأول «عـاشـقـة الـلـيـل» (1947) تضـمـن ترجمات لك من شعرائها، كترجمتك لمقطوعة «البحر» من قصيدة «بایرون» الطويلة: «أسفار تشايلد هارولد»، وقصيدة «توماس غراي»: « مرثية كتبت في مقبرة ريفية »، ونحـن نـعـرف أن الترجمة قد تكون إعجاباً، وقد تكون تبنياً- خصوصاً ونحن نجد هذه القصائد مدرجة في ديوان واحد مع شعرك.
** أنا لم أتأثر بالرومانسية الإنجليزية، وشعري كله تعبير عن ذاتي، وعن عواطفي.
إن أول قـصـيـدة ترجـمـتـهـا هـي «سونيت» (sonnet) لشكسبير، عنوانها: «الزمن والحب» (Time and love)، وكان ذلك أثناء دراستي فـي مـرحـلـة الليسانس سنة ١٩٤٣، ولـم أنـشـرهـا. نعم، تـرجـمـت قصيدة توماس غراي «مرثية في مقبرة ريفية»، وترجمت مقاطع مختارة من مطولة بايرون: «أسفار تشايلد هارولد»، وقد نشرتها. وترجمت قصيدة لفرانس تـومـسـن عنوانها: «النجوم»، ولم أنشرها. كما ترجمت مقاطع من مطولة كيتس:«هايبيريون»، ولم أنشـرهـا أيضاً.
الدافع الى الترجمة (عندي) هو إعجابي بالشعر الذي أترجمه، وذلك يجعلني أحب أن أنقله إلى العربية شعراً يقرأه القارئ العربي، ويستمتع به. كما أنني، أنا نـفـسـي، أجد لذة في نظم هذا الشعر بالعربية، وإن لم أترجم إلا قصائد قليلة جداً، فقد كنت منصرفة إلى التعبير عن نفسي بشعري أنا، لا بشعر سواي من الشعراء.
كل قصيدة أترجمها أصبغها بلون المرحلة الشعرية التي أعيشها. لذلك كانت الترجمات في «عاشقة الليل» تحمل ألوان شعري، وصور أفكاري أنا- وهذه صفة كل ترجمة دقيقة: لا بد أن تحمل الكثير من روح مترجمها، لذلك كانت ترجمة «فتزجيرالد» لـ «رباعيات الخيام» فتزجيرالدية أكثر منها خيامية»
*إن سؤالي يتوجه إلى البحث في عناصر التكوين الثقافي، والشعري بخاصة
** قـرأت لـ «ويردزويرث»، و «کولردج»- وهـمـا المـمـهـدان الرئيسان للرومانسية – ثم قرأت «كيتس» و«شيلي»، و«بايرون»…
أحببتُ كيتس» أشـد الحب، وقرأت شـعره مراراً عديدة. وكنت في التاسعة عشرة من العمر عندما بدأت أقرأ الشعر الإنجليزي. كنت (الـعـام ١٩٥٠) في «جـامـعـة برنستن»، ودرست المسرح، والمسرحية مع الأستاذ «ألن داونر»، وركزنا على «هنري جيمس». وتابعت مقرراً في الأدب اللاتيني، قرأنا فيه نصـوصـاً لشيشرون-الخطيب الروماني – وحـضـرت مقرراً في الشعر الإنجليزي، كلفنا الأستاذ خلاله أن ينظم كل طالب « سونيت»، وقد حازت قصيدتي رضا الأستاذ دون أن يكون اسمي مكتوباً عليها- وقد طلب الأستاذ ذلك منا ولم يكن أحد، في الصف، يعرف أنني شاعرة معروفة الوطن العربي .
وفي سنة ١٩٥٤ اشتغلت على الماجستير في «الأدب المقارن» في «جامعة وسكنسن» في مدينة مادسن بولاية وسكنسن، وأثناء ذلك قرأنا شكسبير سنة كاملة، ولم نترك فيها مسرحية له لم نقرأها، وقد تابعت هذا « المقرر» في قسم الأدب الإنجليزي مع الأستاذة مادلين-وهي أستاذة متمكنة من شكسبير، وتمتلك قدرة على الفهم، وعمقاً في التعبير.
كما درست «مقرراً » حول الملامح البارزة في الأدب العالمي – قرأنا فيه : «كونفوشيوس»، و«تاو»، و «الباغافادكينا»، و «أفلاطون»، و«القديس أوغسطين»، وسـواهـم. ومع هذه الدراسات قرأنا القرآن بالإنجليزية، وكنت أنا المحاضرة في هذه الدراسة، لأن الأستاذة لم تكن تعرف القرآن إلا معرفة سطحية. كذلك درسنا أدباء أوروبيين بارزين.. قـرأنـا سـرفـانـتـس»، و«سـتـانـدل»، و«بـلـزاك »، و « دوستويفسكي»، و«جيمس جويس»، و «إميل زولا»، و «جـان بـول سارتر»، و «برناردشو»، و«مارسيل بروست». وكنت، خلال ذلك، أكتب أبحاثاً كثيرة كانت تلفت الأنظار، ولم أنشر من هذه الأبحاث، إلا دراسـتـي عـن مـسـرحـيـة «الأيدي القذرة» لـسـارتر، وسـوف أتـفـرغ لترجمة هذه الأبحاث، ونشرها بالعربية. كما إنني سأحرص على نشرها بالإنجليزية، لأن أسلوبي فيها كان يحوز الإعجاب، ويتجاوز قسـم الأدب المقارن إلى أقسام الجامعة الأخرى. كذلك كان ثلث المواد التي درستها في الماجستير في قسم الأدب الفرنسي. قرأنا الشعر الفرنسي الحديث من «لامارتين»، و «فكتور هوغو»، و «ألفرد دي موسيه» إلى «شارل بودلیر»، و «آرتور رامبو» و «بول فاليري».
* وماذا عن العناصر الميثولوجية التي برزت في شـعـرك الأول، ماذا عن الثيمات الأسطورية الرومانسية مثل : اليوتوبيا، واللابرنث، ودايانا، وأبولو.. وغيرها.
** الكلمات: « لابرنث»، و «یوتوبیا» و «هیاواثا» ليست كلمات من الميثولوجيا الإغريقية. أرجو الرجوع إلى تعقيبي على الكلمات في آخر ديواني: « شظايا ورماد» فـفـيـه جـواب عن هذا السؤال). أما « ديانا»، و «أبولو»، «فهما إلـهـان إغـريـقـيـان، وهـمـا أخـوان أبوهـمـا « جوبيتر»- إله الآلهة عند الإغريق. ومثل «ميدوزا»- وهي حيوان خرافي إغريقي قتله «برسيوس»، وهو يتميز بأن عينيه قاتلتان، فكل من نظر فيهما يسقط ميتاً، وقد قتله «برسيوس» بالنظر في المرآة، حيث تنعكس صـورته. ولهذا تحاشي النظر إلى عينيه. ومثل «أورورا» إلهة الفجر عند الإغريق، ومثل «فينوس» إلهة الجمال التي ولدت من زبد البـحـر. كل هذه الأسـمـاء اسـتـعـمـلـتـهـا لأنني أعـرف الميثولوجيا الإغريقية من أصغر تفصيلاتها إلى أكبرها، وقد درستها دراسة مفصلة في فرع التمثيل بمعهد الفنون الجميلة العام ١٩٤٢.
* وأخيراً، سألتها رأيها ببعض الشعراء الـعـرب.. فأجـابت باقتضاب شديد، وأحكام قاطعة:
* بدر شاكر السياب؟
* * شاعر مبدع..
* عبد الوهاب البياتي ؟
* * شاعر مبدع..
* إيليا أبو ماضي؟
** شاعر مبدع، ولكنه فقد شاعريته في آخر حياته.
علي محمود طه؟
** شاعر مبدع..
* محمد عبد المعطي الهمشري؟
** شـاعر مبدع، مات شاباً، وشعره قليل كل القلة، وهو متأثر بكيتس.
* جبران خلیل جبران ؟
** شاعر مبدع له قصيدة واحدة هي «المواكب»
* أحمد زكي أبو شادي؟
** شاعر ضعیف، متكلف.
* عباس محمود العقاد؟
** شاعر ضعیف متكلف.
*إبراهيم عبد القادر المازني؟
** شاعر ضعیف متكلف.
* عبد الرحمن شكري؟
** شاعر لابأس به.
* أبو القاسم الشابي؟
** شاعر مبدع.
* ميخائيل نعيمة ؟
** ليس له إلا القليل من الشعر، وفيه شاعرية.
* إلياس أبو شبكة ؟
** شاعر مبدع.
المصدر:
مجلة الجديد في عالم الكتب والمكتبات/ العدد 7 (صيف 1995). ص 27.