مذكرات

عذراء الصباح الصامتة.. عن سحر القهوة ورائحتها و قصص فناجين المساء

نجوى حارب

…وبعد ليلة من ليالي دجنبر الممطرة، استيقظ  على رائحة تراب مبلل ممزوجة برائحة قهوة تستحق فعلا ان تكون عطرا، تاخذني الرائحة إلى مصدرها حيث المطبخ أو  ” الكشينة” كما تسميه مي الياقوت حيث تعد قهوتها  الصباحية فوق حطب مشتعل في ” كانون ” ، كانت لدى جدتي طريقتها الخاصة في خلط البن وتحضير المشروب بدقة حيث تضيف لمستها الفنية من القرفة، لتجعل من قهوتها لحظة فريدة من نوعها.

أصبحت تلك الفناجين شاهدة على تلك الأحاديث العائلية، وجعلت من نفسها أيضا عادة وجب حضورها لتبادل الحديث فان غابت أصابهم البكم.

  تأخذ جدتي ابريق قهوتها الذي ستنفرد به لوحدها فيما بعد وتضعه فوق مائدة الفطور، وعلى صوت هديل الحمام تأخذ الياقوت رشفة قهوة من فنجانها وفي كل رشفة تهدى لها حياة جديدة لتكمل يومها بنشاط وتفاؤل.

 رحلة الفنجان من الزاهية إلى الياقوت

تروي لي مي الياقوت ان عادتها في تحضير فنجان من البن كانت تأخذ مراحل كما اعتادت ان ترى امها الزاهية تفعل، وبدأ من تنقية حبوب البن بعناية فائقة، محدقة في كل حبة وكأنها تقرأ من خلالها قصة ”هادشي ملي كانو عندي العينين ابنتي، اما الان الكل جاهز للبيع”، بعدها تأتي مرحلة تحميص البن فتستخدم لهذه العملية مجرفة خشبية وتقوم  بحركات دائرية وبعد التحميص تقوم بطحن الكل بعناية تامة لتمنح قهوتها نعومة خاصة ونكهة فريدة عندما تخلطها مع القرفة و الزنجبير و الهيل ثم راس الحانوت الذي بدوره يحتوي على أعشاب مختلفة.

مازلت اتذكر تلك اللحظات التي تجمعنا على طاولة تجتمع فيها العائلة على فناجين القهوة في بيت عمتي التي كانت تحرص على اعداد اجود انواع القهوة وصبها في فناجين زجاجية راقية كل فنجان كان يحمل معه قصصا من الماضي

فنجان وحكاية

لّا فاطمة هي جارة جدتي الوحيدة تأتي كل يوم عصرا حاملة في يدها رغيفا او كعكا وفي لسانها تكبح كلمات ستحكي صراعها مع زوجة ابنها، لا فاطمة منذ دخولها المنزل والجميع مضطر لإعادة كل كلمة على الاقل مرتين كي تسمعها. وما إن تضع جدتي طاولة الطعام، وتضع عليها بعضا من الحلويات المخبأة في سطل لا يعرف مكانه سواها وترفقه بما أتت به جارتها. وتأتي بابريق قهوتها مع الفناجين الخاصة به حتى ينفجر لسان لا فاطمة بعد صمته الطويل، وتحكي صراعها الذي لا ينتهي مع زوجة ابنها، حتى أصبحت تلك الفناجين شاهدة على تلك الأحاديث العائلية، وجعلت من نفسها أيضا عادة وجب حضورها لتبادل الحديث فان غابت أصابهم البكم.

اتذكر حين كنا نمتنع نحن الصغار عن مشاركة شرب القهوة، فعمتي كانت تقول دائما القهوة خصصت للكبار لان بها مادة لا تنفع الصغار، اهي نفس المادة التي تجعل من صوت الضحكات تسمع في الخارج؟ ام هي المادة التي تجعل كل واحد منهم يسرد قصصا و الآخرون في استماع له بدون ملل او كلل؟

  تستمر لا فاطمة في حديثها وتنسى ان تأخذ رشفة من فنجانها فتقاطعها جدتي قائلة :” شربي قهوتك قبل ماتبرد ” فترد الأخرى ” لالا هاديك كاع مكتمرض ” ، تضحك جدتي من جوابها، فقد كانت تظن انها  تتحدث  عن زوجة ابنها لتعود إلى دعوتها  لرشف قهوتها قبل أن تبرد ويستمر هكذا الحديث بجانب فناجين القهوة ورائحة البن الفواحة، إلى ان يقترب موعد غروب الشمس.

   فنجان على انغام العندليب الاسمر

مازلت اتذكر تلك اللحظات التي تجمعنا على طاولة تجتمع فيها العائلة على فناجين القهوة في بيت عمتي التي كانت تحرص على اعداد اجود انواع القهوة وصبها في فناجين زجاجية راقية كل فنجان كان يحمل معه قصصا من الماضي وأحاديث عائلية، ورائحة القهوة الفواحة لا بد لها من تشغيل موسيقى عبد الحليم حافظ، حتى ألفنا اقتران القهوة بموسيقى العندليب الاسمر ، مازلت اتذكر حين كنا نمتنع نحن الصغار في مشاركة شرب القهوة، فعمتي كانت تقول دائما القهوة خصصت للكبار لان بها مادة لا تنفع الصغار، اهي نفس المادة التي تجعل من صوت الضحكات تسمع في الخارج؟ ام هي المادة التي تجعل كل واحد منهم يسرد قصصا و الآخرون في استماع له بدون ملل او كلل؟ كنا ننتظر متى نكبر لناخذ أيضا  الفنجان ونسافر به على انغام العندليب او كوكب الشرق ،وتسمع لنا تلك الضحكات الصاخبة ونتكلم نحن أيضا والجميع في استماع بدون مقاطعة.

لن ننس رائحة تلك القهوة التي لخصت أفضل لحظات الانسجام والتلاحم.

نجوى حارب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى