مذكرات

سيرة بين الجبل و الوطن (9)

غروب يلدُ الحكاية

يكتبها عبد الرزاق بن شريج

كانت شمس المساء تتهدّل على أسطح الدوار مثل وشاحٍ نحاسيٍّ يلمع فوق قرميد البيوت وحقول الزيتون. في فناء الدار، جلس سعيد يضمّ كَنْزَه الصغير، كنز لا يملك مثله سواه: قلم رصاص ودفتر امتلأت صفحاته بخطوطٍ وحروف مغربية متعثّرة. لم يكن يعرف ما يكتب، لكن كل خطّ مائل كان عنده وعداً برجولة قادمة. همس لنفسه وهو يضغط القلم على الورق:
«ها أنا أكتب مثل الكبار… قلمي سيفي».
القلم والدفتر كانا جواز عبوره إلى عالمٍ أوسع من الدوار، فتباهى بهما أمام أقرانه كما يتباهى فارس بسيفٍ لامع.

القبة البيضاء… بياضٌ يحرّض على الكتابة

حين نفدت أوراق الدفتر، رفع عينيه نحو جدار “القبة”؛ تلك الغرفة المخصّصة للضيوف، بياضها الناصع يلمع في الضوء الأخير. بُنيت القبة سنة 1930، جدرانها الحجرية سميكة تُدعّمها طبقة تبنٍ من الخارج، أمّا من الداخل فطلاء من عجين الجبس “المرطوب”، لمسة حداثة نادرة في الدوار. اقترب سعيد، مدّ يده بثقة، وبدأ يرسم حروفه الطفولية على الجدار كأنه يوقّع اسمه على صفحة من المجد.

عبد الرحمان… عودةٌ محملة بعبق الأرض

من البحيرة، عاد عبد الرحمان بعد يومٍ شاق في السقي، متنقلا بين الخضروات وأشجار الزيتون. كان عرق جسده يتصبب على الأرض ويختلط في ثيابه برائحة الماء العذب. لمّا رأى ابنه، ابتسم وهو يقترب:
عبد الرحمان مداعباً: «أرسمتَ علماً جديداً يا سعيد؟».
ولكن لا نكتب على جدران القبة، يجب أن نتركها نظيفة وجميلة، الكتابة تكون على اللوحة أو في الأوراق.
ضحك سعيد بخجل وواصل خربشاته، يشعر بحريةٍ أكبر في ظل أبيه.

راضية… غضب الأم يسطر حرمة المكان

لكن راضية، الأم الحازمة، رأت في المشهد اعتداءً على حرمة القبة. انقضّت كالنسر، والحزام الجلدي يجلد الهواء قبل جسد سعيد.
راضية صارخة: «تدنّس القبة يا ولد؟!»
ارتج البيت بصوت الصرخات. حاول عبد الرحمان تهدئتها:
عبد الرحمان محتجّاً: «دعيه… إنه طفل!»
راضية حازمة: «طفل أم لا، القبة ليست سبورة!»
احتدم الجدال، ثم آثر عبد الرحمان الصمت، حمل جلبابه وغادر نحو المسجد، سيترك وراءه أصداء الخلاف تتردد، حتى صلاة العشاء.

نهارات المسيد… وليالي الإذاعة

كان سعيد يقضي نهاره في مسيد الفقيه سي بن بوبكر، يحفظ القرآن ويتعلم مخارج الحروف. وفي المساء، يجلس والده بجانبه يعلمه كتابة الحروف بينما تتعالى من الراديو أصوات المذيعين وهم يصفون مباريات كرة القدم. كان عبد الرحمان يفتخر بمعرفته الرياضية، يروي لأهل الدوار أخبار أولمبياد طوكيو في أكتوبر 1964 وكأس محمد الخامس التي استضافت فرقاً عالمية كريال مدريد وبوكا جونيورز، كأنه يفتح نافذة صغيرة على العالم البعيد.

وضيمة محند… وجدل التعليم

في ليلة خميس من يناير 1964، ساهمت عائلة “آيت عبد الرحمان” بطاجين العشاء في وضيمة محند ابن “آيت إشو”، الذي سقط في حرب الرمال بين الشقيقين المغرب والجزائر؛ أهل الدوار يؤمنون أن الوضيمة تكون في اليوم الثالث بعد الوفاة ولا يجوز لأهل الميت صنع الطعام للمعزين، فمن السُّنٌَة أن يقوم الأقارب والجيران بإعداد الطعام لأهل الميت في هذه الحالة، …
حضر الجميع في خيمة نصبها الجيران أمام باب منزل المتوفى، هناك، استغل عبد الرحمان فترة استراحة “الطلبة” من قراءة القرآن فبادر بالسؤال لأحد المعلمين الذي يدرس كل المستويات في حجرة “تاماست” الوحيدة:
عبد الرحمان: «في أي سن نسجّل أبناءنا في المدرسة العمومية؟ أفكر في إدخال سعيد مبكراً».
كان عبد الرحمان على علم بأن وزارة التربية الوطنية أصدرت مذكرة تقضي بإبعاد التلاميذ الذين بلغوا سن 18 عامًا عن المدارس الثانوية وإلحاقهم بالتعليم التقني، بهدف ربط التعليم بعالم الشغل، لذا فكر في تسجيل ابنه مبكرا حتى لا تشمله بنود هذه المذكرة المشؤومة كما عبر للمعلم،
دار نقاش طويل: فريق يريد أبناءه في المسيد والزوايا مثل زاوية “تناغملت” ومدرسة “ابن يوسف” بمراكش طلباً للبركة والعلم والاحترام، وعدم التشبه بالنصارى؛ وفريق آخر يدعو إلى التعليم العصري الذي يفتح أبواب الوظائف…
وحده عبد الله، أستاذ الثانوي القادم من بني ملال، تجرأ قائلاً:
«التعليم حق لكل طفل، فلا تؤخّروهم، والدولة مسؤولة عن تعليم كل أبناء الوطن، ولا تقدم وتطور وتنمية للمملكة دون مواطنين منفتحين على ثقافات باقي الدول والشعوب».
لكن الحاضرين لزموا الصمت، من جهة شيخ القبلة، ممثل السلطة المخزنية، كان يراقب بنظرة صارمة جعلت الكلام يتبخر؛
ومن جهة أخرى تلك شروحات تحتاج إلى مستوى ثقافي حتى تفهم.

الحسين… جرح المدينة وخوف القرى

حلّ ربيع 1965، وعاد الحسين ابن أخ عبد الرحمان ليلاً، جرحٌ غائر في قدمه وعينان تلمعان بتوتر. جلس أمام عمه يهمس:
«في الدار البيضاء… شاركت في انتفاضة 23 مارس 1965، المخزن تدخل بقوة واستعمل السلاح ضد المتظاهرين واعتُقل كل من وُجد في الشارع، والبحث جارٍ عمن شارك او اشتبه فيه، هربت مع أحد اليساريين عبر سيارته الخاصة إلى دار ولد زيدوح وبمساعدة أحد أقاربه على ظهر بغلة إلى أولاد عياد، ووصلتكم الليلة راجلا».
أطبق الصمت على المكان. رد عبد الرحمان بصوت خافت: «احذر البشير، كاتب القائد. قد يبلغ الدرك عنك. لن ينس لك التخلي عن خطبة بنت أخيه يعقوب، وهو يعرف كل كبيرة وصغيرة عن اليساريين … ابقَ مختبئاً».
أومأ الحسين موافقاً، فيما كان الليل يطبق على الدوار بظلال كثيفة تنذر بالخطر.

حروفٌ تقاوم النسيان

وسط قسوة الحياة القروية وصراعاتها الصامتة، تماوجت أيام عائلة آيت عبد الرحمان بين طموح التعليم وذكريات الحروب. وعلى جدار القبة، بقيت حروف سعيد الطفولية شاهدةً على حلم صغير بأن يكتب اسمه على بياض العالم، حروفٌ تقاوم النسيان مثل جرحٍ لا يمحوه الزمن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى