مذكرات

سيرة بين الجبل والوطن(3)

الحلقة الثالثةمن: مطبخ فطومة إلى دعاء الفقيه… ليلة لا تُنسى

يكتبها عبد الرزاق بن شريج

اتفاق البدايات

كما سبقت الإشارة إليه في الحلقة الثانية تمّ الاتفاق بين عبد الرحمان وأخيه محمد بن دريس، وبموافقة والدتهما فطومة، على تخصيص:
ليلة الاثنين لفرقة “الطلبة” بقيادة الفقيه السوسي، وليلة الأربعاء لفرقة “بلعلو” الموسيقية.
منذ تلك اللحظة، بدأ عقل عبد الرحمان ينشغل بالتفكير والتخطيط، يضرب الأخماس في الأسداس، ليس في المال الذي سيُصرف فقط، بل في كيفية تنظيم الحفل، وتدبير أدوات الطبخ وعدد الطاولات والكؤوس وكل المستلزمات اللازمة لإنجاح المناسبة.

صراع مفاجئ حول الأسماء

لم يكن عبد الرحمان يتوقع أن يُفاجَأ بموقف زوجته بشأن اختيار اسم المولود. وجد نفسه بين المطرقة والسندان:
الزوجة اختارت اسم “محمد رضى”، اقتداءً بنهج والدها الفقيه المناضل وعضو قيادة جيش التحرير، الذي كان يختار لأبنائه أسماءً ثنائية تبدأ بـ «محمد” تيمّنًا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
أما عبد الرحمان، فقد اختار اسم “سعيد” بعد اتفاق مسبق مع أخيه محمد وأمه فطومة.
اشتعل الخلاف، ولم يعد الأمر مقتصرًا على الزوجين، بل اتسع ليشمل الوالدين والإخوة والأهل. انقسم الجميع إلى فريقين:
فريق الزوجة رابحة (أم المولود) وزوجات محمد بن دريس وأبناؤه وبناته.
وفريق فطومة وولديها عبد الرحمان وأخيه

دخول القابلات على الخط

في خضم التوتر، حضرت كبيرات الدوار الثلاث، القابلات الشعبيات، (حادة الحميدية، حادة البوزكراوية، وحادة العربية).
قَدِمْن لتفقد المولود وأمه النفساء، لكنهن وجدن أنفسهن وسط الخلاف، اقترحن احتراما للطرفين إجراء “العود”، أي القرعة، لحسم الاسم، إلا أن الفريق الأول رفض الفكرة تمامًا.

المفاوضات الحاسمة

استمر النقاش طويلًا إلى أن استقر الاتفاق على اعتماد اسم “سعيد” بتنازل فريق الزوجة، مقابل التزام فريق الزوج بتنظيم حفل خاص بنساء الدوار يوم الأحد المقبل.
وافقت الأم فطومة مبدئيًا، لكن بعد التشاور مع ابنيها تغيّر الموقف، فعبد الرحمان لم يعترض، ولكن محمد بن دريس رفض الاتفاق لثلاثة أسباب رئيسة:
قدسية ترتيب الحفلات: لا يمكن إقامة أي حفل قبل فرقة الفقيه السوسي، إذ في ذلك بركة وخير وصحة للنفساء والمولود، فالملائكة تفرح بالقرآن والدار التي يُقرأ فيها لا يدخلها الجن.
توقيت الأسواق الأسبوعية: لا يوجد أي سوق قريب سوى يومي الاثنين والأربعاء، ما يجعل تجهيز مستلزمات الحفل في غيرهما صعبًا.
طقوس العقيقة: يجب أن تُذبح الذبيحة باسم المولود المتفق عليه على يد الفقيه، مع التكبيرات والزغاريد والدعوات بالبركة؛
وبناءً على ذلك، كان تنظيم الحفل أمرًا مقبولًا، لكن المشكلة بقيت في تحديد التاريخ. اقترح محمد بن دريس أن يكون يوم الخميس الموالي بعد ليلة الأربعاء المخصصة لفرقة “بلعلو”، مع امتياز آخر، تخصيص مكان فوق السطح للنساء للاستمتاع بالموسيقى.
تمت الموافقة أخيرًا، وحُلّ الخلاف.

الاستعداد الكبير

اعتمد عبد الرحمان على أصدقائه الخمسة في التحضير ليوم الحفل: (موحا، الحسين (أخوه)، العربي، مُحَنْد، والمدني؛
تكلفوا بجلب الأفرشة والأباريق والكؤوس والصحون من عند الجيران، إذ لم يكن في الدوار ممون حفلات ولا نكافات. كان كل شيء يقوم على التعاون والتآزر بين السكان.

صباح الاثنين

في صباح يوم الاثنين، حضرت ثلاث طباخات محترفات، من تقات، وأولاد غنام، وآيت بويحيا. وفي الوقت نفسه، توجه عبد الرحمان وأصدقاؤه إلى السوق الأسبوعي لاقتناء باقي مستلزمات الحفل، باستثناء الكبش، إذ كان لعبد الرحمان وأخيه زريبة من الأغنام وبعض الأبقار، علاوة على ذلك، ولأغراض النقل وحمل الأثقال فقد كان لديه فرس وبغل وحمار أشهب.
أما الدجاج، فكانت حصة الأسد منه مملوكة لـ فطومة، الزوجة الأولى لمحمد بن دريس، والتي تكفلت بإعداده للحفل.
ذبح محمد بن دريس كبش العقيقة بموافقة الفقيه (حسب ما صرّح به لأمه وأخيه)، وكان عبد الرحمان قد فكر في تقديم أكلتين رئيسيتين: الكبش مشويًا وطواجين الدجاج، لكن أخاه رفض الفكرة بمبرر أن تقديم كبش مشوي لفريق الفقيه السوسي سيقتضي تقديم كبش آخر لفريق “بلعلو”، وثالث لحفل النساء، وهو ما رآه تبذيرًا فوق الحاجة.
لذلك، شرعت الطباخات في إعداد الوليمة، وفق ما جرت به العادة، بالاكتفاء بـ “طواجين” اللحم والدجاج مرفوقة بأطباق جانبية تقليدية، لم تمض إلا حوالي ساعة حتى بدأت رائحة التوابل تنتشر في أرجاء الدار لا يقطع تدفقها إلا رائحة الخبز البلدي الذي كان يطبخ في التنور غير بعيد من أنظار الضيوف، مما زاد حماس النساء والأطفال على حد سواء.

ليلة الاثنين

مع حلول الليل، بدأ ضيوف الحفل يتوافدون تباعًا. حضر الفقيه السوسي وفريقه من فقهاء الدواوير المجاورة (خمسة عشر حافظًا للقرآن)، يرافقهم كبار السن من أبناء المنطقة، وذلك مباشرة بعد صلاة العشاء بالمسجد المجاور لمنزل عبد الرحمان وأخيه.
كما حضر قبلهم بعض الشباب من أصدقاء عبد الرحمان للمساعدة على تنظيم الحفل القرآني وتجهيز القاعة. تكفّل الحاج عديدي بإعداد الشاي المنعنع، مسنودا في ذلك بالشاب عمر الهيبة الذي عُرف بخفة حركته وبراعته في خدمة الضيوف.

استراتيجية “الطلبة” بقيادة الفقيه السوسي

الحصة الأول

افتتح الفقيه السوسي الحصة الأولى من القراءة الجماعية بسورة يس، وختمها عند الآية (12):
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ}.
بعدها قدّم الفقيه سي بن بوبكر موعظة مؤثرة حول الجنة والآخرة، وربطها بأهمية الصدقة وفضلها في الدنيا والآخرة.

الحصة الثانية
بدأت الحصة الثانية بتلاوة الآية (10) من سورة سبأ: {وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ، وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ} واختتمت بالآية (39): {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
ثم تناول سي بن بوبكر في موعظته عذاب القبر وسبل النجاة منه، مركزًا على ضرورة طاعة الله وكثرة الاستغفار والإحسان إلى الناس.

الحصة الثالثة
أما الحصة الثالثة، فقد افتُتحت بالآية (243) من سورة البقرة: {أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَهُمۡ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحۡيَٰهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ} وختتمت بالآية (261): {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وعاد الفقيه سي بن بوبكر ليركز في موعظته على أهمية العقيقة ومكانتها الدينية، مؤكدًا على أن كل من ساهم فيها أو تصدّق خلالها له نصيب من الأجر الموعود والجنة الموعودة.

خاتمة الحفل

ختم الفقيه السوسي الحفل بدعاء مؤثر، شكر فيه كل من ساهم في إكرام الطلبة ودعمهم، وتضرع إلى الله أن يبارك في رزقهم وذراريهم. وقد جُمعت خلال الحفل تبرعات مالية معتبرة لفائدة السوسي وفريقه، مما زاد أجواء الارتياح والرضا بين الحاضرين.
عاد الجميع إلى بيوتهم في وقت متأخر من الليل، بينما بقي عبد الرحمان وأصدقاؤه منشغلين بترتيب المكان وتجهيز ما يلزم لليلة الأربعاء، حيث سيُقام حفل فرقة الفنان “بلعلو” الموسيقية…
وذلك ما سيكون موضوع الحلقة الرابعة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى