سيرة بين الجبل والوطن (8)
الحلقة الثامنة: من همس فطومة إلى صدمة دمنات.. حين يكتب القدر النهاية

يكتبها عبد الرزاق بن شريج
الخبر الصاعقة
في ليلة ساكنة من ليالي الدوار، جلست فطومة قرب زوجها محمد بن إدريس، والقلب مثقل بسرّ لا يقبل التأجيل. سحبت أنفاسها بعمق، واقتربت منه وهمست:
— «الحسين يا محمد… صعّبها علينا».
أفصحت عن الخبر الذي كان يتفاداه: مشروع المصاهرة مع عائلة آيت يعقوب يكاد يتبخر. الحسين رافض عنيد، والبشير، الكاتب الخاص للقائد، لن يقبل انسحابًا قد يُفهم ضعفًا أو قلة احترام. فالخطبة صارت على كل لسان بين أعمدة العائلات القوية.
ثم فاجأته بالقنبلة: «ولدك الحسين… دخل فالسياسة الملعونة».
ذكرت اسم سي حسن البومليكي، قائد جيش التحرير الهارب للجزائر، وأشارت إلى اتصالات الحسين برجال الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. لم تعرف التفاصيل السياسية، لكنها شعرت أنّ الأمر يتعدى مجرد زواج.
الحسين كان قد أسرّ بكل شيء لعمّه عبد الرحمان، الميال بدوره للاتحاد، والذي أبلغ زوجته راضية بتحفّظ: «الحسين مشغول بالسياسة وفي وسط دوامة كبيرة»، طالبًا منها كتمان السر. لكن القلق غلبها، فوصل الهمس إلى فطومة.
محمد بن إدريس، وهو يفكر في رحلته التجارية المقررة، خطر له أن يستغلها أيضًا للتقصي عن “السياسة اللعينة”.
رحيل غير متوقَّع
تهيأ محمد بن إدريس للسفر كما لو كان يعبر نهرًا يعرف عُمقه ولا يخشاه. ظلّ وجهه ساكنًا وهو يعلن خطته:
«غادي نمشي لابزو نشري الجلابة البزيوية… ومن تمّ للصويرة نكمّل الصفقة مع اليهود. ونجيب ثوب الكمخة طالبينها أُفاسا … ومن بعد… الله يدير ما بغى».
في طريقه توقف بقرية أولاد عياد عند صديقه القديم محمد الفاضل، القيادي بحزب الاستقلال. وبين رائحة الشاي وأحاديث السياسة، سمع خلاصة مريرة عن انقسام الحزب وخروج جماعة المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وما يلقيه ذلك من ظلال على البلاد. قال محمد الفاضل بلهجة فيها حكمة قاتمة:
«مات محمد الخامس… وبدات الثورة تأكل ولادها، والمستعمر غير بدّل حوايجو… ما علينا غير نتأقلمو».
في سوق الخميس بابزو أتم مهمته واشترى الجلابة، ثم تابع نحو دمنات ليزور صديقًا آخر من أهل السياسة، عسى يجد خيطًا يربط ابنه الحسين بمجموعة الفقيه البصري. كان الأب يبحث عن مخرج يجنّب العائلة الاصطدام بالمخزن أو بالجناح اليساري الراديكالي أو حتى بحزب الاستقلال نفسه. تتردد في ذهنه كلمات محمد الفاضل كأنها نبوءة ثقيلة.
لكن القدر كان أسرع من كل حساباته. فبينما يتنقل بين القرى، باغته الموت في دمنات. وتعددت الروايات: قيل إنه خرج ليلًا للقاء أحد المعارف فسقط من جرف «إمي نيفري»، حيث ابتلع الظلام آخر خطاه.
الرحيل إلى العاصمة الاقتصادية
بعد الفاجعة، هاجر الحسين إلى الدار البيضاء ليلتحق بأخيه الأكبر محمد العامل في شركة السيارات «صوماكا». كانت المدينة أهدأ من صخبها اليوم، والمصانع تعتمد أكثر على الأيدي العاملة.
الحسين، الفقيه المتخرج من جامع ابن يوسف، جاء يحمل علوم الدين وروح الاستقلال، لكنه اصطدم بواقع العمل القاسي. غير أن صلة أخيه بالفرنسي مدير الشركة- فتحت له بابًا بوزارة العدل، حيث عُيّن في قسم الشكايات؛ عمل يحفظ مكانته وإن لم يحقق طموحه.
عبد الرحمان… تجارة بلا سند
في الدوار، بدا عبد الرحمان كالرأس المقطوع بعد رحيل أخيه. فالتجارة كانت قائمة على الثقة بلا توثيق. الأراضي والأشجار التي اشتراها محمد، باسمه وباسم عبد الرحمان، لا يسندها سوى أوراق يكتبها الفقيه المجوجكي—«المحكمة المتنقلة»—وأحيانًا بلا وثائق، يكفي حضور الشهود وشيخ القبيلة.
بغياب محمد، بدأت الدعاوى والنزاعات: بائعون تراجعوا، ديون تبخرت، وأموال ضاعت. لم يعرف عبد الرحمان أين تبدأ حقوقه وأين تنتهي.
نساء بين الرحيل والزواج
في أواخر سنة 1961، بعد سنة على وفاة محمد بن إدريس، لحقت فطومة بابنيها إلى الدار البيضاء. الزوجة الثانية، فطومة الشلحة، تزوجت سريعًا، أما الثالثة، البتول، فبقيت مع عبد الرحمان حتى 1962 ثم تزوجت جنديًا متقاعدًا من الحرب العالمية الثانية.
عودة إلى الأرض… موسم المطر والحنين
بعد رحيل النساء والأبناء، بقي عبد الرحمان وحيدًا في الدار الكبيرة. جدرانها التي عرفت صخب العائلة صارت تردّد صدى خطواته وحده.
رحل إلى إفران ليجرّب حظه، حمل بضاعته وفتح دكانًا صغيرًا، لكن غلاء كراء المنزل والحانوت، وقلة المعارف أنهكا ميزانيته. حين وُلدت ابنته حورية، لم يستطع إقامة عقيقة كما فعل لابنه سعيد؛ اكتفى بجيران و«طلبة» لقراءة القرآن.
ومع شتاء 1963 القاسي، انفتحت السماء بمطر غزير، ففاضت السواقي وتعطّرت الأرض برائحة التراب المبتل، فأيقظت حنين طفولته. لكن لم يكن الحنين وحده السبب. في يوليوز من السنة نفسها، هزّ المغرب خبر اعتقالات واسعة طالت أكثر من خمسة آلاف مناضل اتحادي بتهمة التخطيط لاغتيال الملك الحسن الثاني. انتشرت أخبار اعتقال كل من شك فيه المخزن، أو كان له تعاطف مع الاتحاديين، وعبد الرحمان واحد من المتعاطفين، وإفران ليست بعيدة عن عيون المخزن.
مع بداية الموسم الفلاحي في أكتوبر، قرر عبد الرحمان العودة إلى الدوار، تاركًا خيبات المدينة وراءه، والأرض في انتظاره.
سعيد… الحلم الصغير
وسط كل هذه التحولات، بقي سعيد مواظبًا على “المسيد” في الدوار وإفران، مولعًا بالتعلم. اشترى له والده دفتراً وقلم رصاص—أدوات نادرة في دوار يكتب أطفاله على ألواح خشبية بالصلصال و”السمق”—تحفيزًا له على العلم. وكان سعيد يغار من شقيقته الصغيرة حورية، فيأخذه والده أحيانًا إلى أمه المرضعة «فطومة العياضية» ليرضي خاطره، لأنها كانت تترك له فرصة اللعب مع أقرانه دون محاسبة أو تأنيب، لأن أمه راضية كانت قاسية معه، بل مع كل أبنائها.
بهذا الإيقاع، تتشابك خيوط الحكاية على قدرٍ يسبق خطوات أبطاله، حيث تلتقي السياسة بالمصائر في دوارٍ صغير تتردد عبره أصداء الوطن الكبير.