
بقلم: عبد الرزاق بن شريج
بعد مرور سبعة أيام على ولادة سعيد، بدأ عبد الرحمان يستعد لحفل العقيقة وفق ما جرت به العادات والأعراف في الدوار. لم يكن الأمر بسيطًا، فالعقيقة ليست مجرد ذبح شاة وإطعام ضيوف، بل هي طقس اجتماعي وديني له شروط دقيقة ضمن مجموعة طقوس لا يفقهها إلا فقيه الدوار.
الفقيه السوسي… رجل يقرأ على الماء فيتجمّد
كان الفقيه السوسي شيخًا مهاب الجانب، يتهامس الناس عن قدراته الخارقة، ويؤمنون بأنه “يقرأ على الماء فيتجمّد”، وأنه “يقرأ على الإنسان فيسكنه الجن”. يُقال إن له أتباعًا من الإنس والجن معًا، لذلك لم يكن أحد من أهل الدوار يجرؤ على انتقاده أو حتى مناقشته فيما يقول أو يفعل.
في الوعي الجمعي للناس، كان الفقيه السوسي أشبه بإمام دائم، كأنما يخطب فيهم خارج شروط الجمعة نفسها، يكفي أن يتكلم حتى يصمت الجميع، شيخ ينطق بكلام الله ويمثل الإسلام على الأرض، ولعل هيبته هذه هي ما دفع عبد الرحمان إلى استغلال صلاة المغرب لينفرد به، طالبًا منه الإشراف على ترتيبات العقيقة حتى تجري وفق ما يرضي الله والفقيه والناس.
الخوف من المخزن في زمن “الاستقلال”
ورغم أن المنطقة كانت تعيش بدايات مرحلة الاستقلال — كما تناقلت الألسن وما ورد عبر المذياع — فإن أهل الدوار لم يتحرروا بعد من تبعات بطش ممثلي السلطة الفرنسية، ولا من سطوة العسكري الفرنسي الحاكم المحلي.
كان عبد الرحمان يعرف أن غضب ممثل المخزن لا يقل خطورة عن غضب الفقيه السوسي نفسه، فاختار الحلّ الأسلم وهو المواربة.
أخبر الشيخ الإداري ممثل المخزن بأنه أول من بُشِّر بخبر العقيقة، وفعل الشيء نفسه مع الفقيه السوسي، محاولًا إرضاء الطرفين في الوقت نفسه حتى لا يقع بين مطرقة المخزن وسندان الدين.
هيبة الأخ الأكبر… محمد بن دريس سيد الحفلات
رغم مسؤولية عبد الرحمان في ترتيب الحفل باعتباره راشدا وأب المولود الجديد، فإنه -مع ذلك- ما يزال تحت سلطة أخيه الأكبر محمد بن دريس؛ أولًا لأنه يكبره سنًا، فالتقاليد المحلية تمنح الأخ الأكبر رئاسة العائلة تحت إشراف الأب قيد حياته، وثانيًا لأنه صاحب خبرة طويلة وعلاقات واسعة مع تجار الدار البيضاء وخنيفرة وفاس ومكناس ومراكش.
كان محمد معروفًا بتنظيم حفلات العائلة والإشراف على أعراسها فهو متزوج بثلاث زوجات، مما منحه خبرة عملية في إدارة الولائم.
أما عبد الرحمان، فهو الآخر تزوج ثلاث زوجات، لكن قصته مختلفة عن قصة أخيه، فزوجته الأولى توفيت، والثانية طلقها، أما الثالثة فهي أم سعيد، صاحب العقيقة.
صراع الشيوخ الثلاثة… ومن يسبق من؟
دار نقاش صاخب بين عبد الرحمان وأخيه محمد بحضور الأم فطومة. كان الخلاف حول ترتيب أولويات الحفل واستقبال الضيوف الكبار:
الفقيه السوسي وفرقته من “الطلبة” لقراءة القرآن،
الشيخ “بلعلو” عازف الكمان وفرقته الموسيقية،
والشيخ الإداري ممثل المخزن.
لم يكن الأمر بسيطًا، فاسترضاء الفقيه واجب، وإرضاء المخزن ضرورة، أما إغفال فرقة الشيخ “بلعلو” فسيغضب الشباب وعشاق الكمان، ومنهم عبد الرحمان نفسه الذي كان يجمع الصفتين، إذ كان ما يزال شابا يحب الموسيقى الشعبية، بل ويعزف أحيانًا على البندير مع فرقة “العامة”، رغم أنه ليس عضوًا رسميًا فيها.
ولم يخطر ببال عبد الرحمان الاستعانة بفرقة الشيخ “بلعلو” إلا بعد أن علم أن عميد فرقة “العامة” عبيدات الرمى مسافر إلى إفران، مما جعل الباب مشرعا لإحياء الحفل بشكل مختلف.
الحل الوسط… ليلة للقرآن وأخرى للموسيقى
بعد أخذ وردّ، ووسط قلق الأم فطومة من تصاعد الخلاف، ظهر الحل الوسط:
تُخصص ليلة الاثنين الموافقة لليوم السابع للولادة لفرقة الفقيه السوسي وطلبته لقراءة القرآن بحضور شيوخ القبيلة، على أن تُشترى لوازم الحفل من السوق الأسبوعي الموجود بنفس الدوار. على أن تُقام ليلة الأربعاء لحفل فرقة الشيخ” بلعلو” الموسيقية، بحضور شباب الدوار وعشاق الكمان، وذلك بعد الاستفادة من السوق الأسبوعي القريب لدعم ما تبقى من المشتريات السابقة. أما الشيخ، ممثل المخزن، فحُسم الأمر بأن حضوره في الحفلين معا لا نقاش فيه.
وهكذا اجتمع الدين والمخزن والطرب في بيت واحد، في حفل عقيقة سعيد، الذي بدا منذ ولادته أن حياته ستكون على تماسّ مع تناقضات السلطة والمجتمع.