
عبد الرزاق بن شريج
في فجر يوم الخميس، من أبرد شهور سنة 1959، أبصر سعيد النور في قرية خضراء على علوّ يتجاوز 1300 متر، حيث يلتقي الأطلس المتوسط بالأطلس الكبير. كان البيت البسيط يتدفأ بخشب الحطب والفحم، فيما كانت أمه بين يدي القابلة الشعبية “حادة”. لم يكن أبوه عبد الرحمان حاضر القلب، بل كان يُخفي قلقه وراء متابعة أخبار كارثة الزيوت المسمومة التي اجتاحت البلاد في شهري شتنبر وأكتوبر من ذلك العام، وتسببت في إصابة عشرات الآلاف بالتسمم، بين موت وعاهات مزمنة، خاصة في مكناس وسيدي قاسم والخميسات.
حين بشّرته “حادة” بمولود ذكر، لم يُبدِ اهتمامًا ظاهرًا، فالتقاليد ترى في التفات الرجل إلى معاناة امرأته ضعفًا وعيبًا. لكن في أعماقه كان ينتظر هذا الخبر منذ زمن، إذ لم يُرزق بسوى ثلاث بنات قبل مجيء سعيد. لذلك رفع سقف “أجرة القابلة” من قالب سكر و”عبرة شعير” إلى فستان فاخر من قماش “الدفينة”.
في صباح اليوم نفسه، جاء صديقه عمر ليُكمل نقاشًا سياسيًا عالقًا حول أحداث 6 شتنبر 1959، يوم المؤتمر التأسيسي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المنشق عن حزب الاستقلال. كان عمر متمسكًا بحزب الاستقلال وقراراته رغم ما آلت إليه الأوضاع من انشقاق قد يضعف التنظيم، ربما بحكم أنه خريج الزاوية “تناغملت” وملتزم بالقسم الذي أداه لمسؤول الحزب في المنطقة، بينما كان عبد الرحمان، التاجر المتعلم للكتابة والقراءة، يعيش حيرة الإيديولوجيات، ميّالًا إلى خطاب اليسار الناشئ.
لكن النقاش لم يكتمل، إذ شغلتهم الولادة، أخبره عبد الرحمان بفخر أن القابلة أذنت في أذن الصبي، غير أن عمر انفجر غضبًا: فالأذان ـ حسب تقاليد الزاوية لا يجوز أن تؤديه امرأة، بل فقيه المسجد أو على الأقل رجل مسن، ثم إن الأصل أن يكون في الأذن اليمنى لا اليسرى. الكلمة نفسها “يمين” و”يسار” غذّت جدالهما؛ عمر بقي على يمينية حزبه، وعبد الرحمان بدأ يميل إلى اليسار.
ولد سعيد إذن في لحظة تاريخية مشبعة بالدلالات: فجر خميس، على يد قابلة شعبية، في زمن صراع بين الدين والعرف، وبين اليمين واليسار، وبين الموت الجماعي بالزيوت المسمومة والأمل في ميلاد جديد.