دراسات

سمير أمين و نقد المركزية الأوروبية

إنها إيديولوجيا مدفوعة بمنازع النرجسية و التفوق و الأنانية

لوسات أنفو : أيوب داهي

شكلت اللحظة النهضوية في أروبا أرضية تأسيسية لما سمي فيما بعد بمشروع الحداثة، هذا المصطلح الذي يحيل في بنيته الى نقيض القدامة و الى التحرر من التقليد ، استوعبت هذه اللحظة معطيات الموروث الفني و الجمالي و الأدبي و الثقافي للتاريخ اليوناني و الروماني الذي تم طمسه في حقبة العصور الوسطى و اندفعت هذه اللحظة نحو القمة مدفوعة بحركات الاصلاح الديني و استثمار نتائج الرأسمالية الجديدة. طبعت اروبا نفسها بطابع القداسة و الإعجاز بعد تواتر المنجزات  على كل المستويات، من خلال النظام الديموقراطي و الثورة الفرنسية و الدولة الحديثة و العلمانية و الإصلاح الديني و الثورة الصناعية  و العلمية ، دفع هذا الواقع المتشكل الذهنية الاروبية الى الشعور بالتفوق على بقية البشر و غذى هذا الشعور  تملكتها نزعات  النرجسية  و الاستعلاء و الشوفينية و الانغلاق و انزال اروبا منزلة المركز من العالم . في محاولته لنقد هذا الاستكبار انطلق سمير أمين من  استاذه الألماني كارل ماركس لكن من زاوية انه نقطة بداية لا كنظرية نتوقف عندها، معتبرا ان   واحدة من أبرز اللحظات التي شكلت العالم المعاصر هي نقد ماركس للعقل الأنواري البرجوازي، من خلال نقد تحليل أدم سميث الذي اختزل الحداثة في إطلاق العنان لحرية المبادرة و للملكية الخاصة.   يعتبر سمير أمين  المركزية الأوروبية هي انشاء حديث و لاحق في التاريخ على عصر الأنوار ذي المنزع الكوني، فقد كان غزو أروبا للعالم و السيطرة عليه و اخضاعه بالقوة العمياء قد وفر البيئة التاريخية و النفسية المناسبة لانفجار مشاعر التفوق و الاستعلاء عند الاروبيين. كما ان نشأة الرأسمالية في أروبا كتجربة غربية خالصة شرعن لخطاب المركزية رغم ان انتشار الرأسمالية في العالم كان بهدف إخضاع تخومه و تأبيد سيطرة المراكز الاروبية ، فعدم  التكافؤ في التقدم الاقتصادي  حسب سمير أمين ليس حادثة سير إنما هو طبيعة النظام الرأسمالي نفسه ، بحيث ان هذا النظام لا يمكن ان يجدد نفسه الا عن طريق إرسائه علاقات تبعية الأطراف و الهوامش للميتروبولات الرأسمالية الغربية. بكثير من النرجسية تنظر اروبا الى الاخر مسكونة بمشاعر التفوق. في نقده لهذه المركزية المتعجرفة في جانبها الاقتصادي يقول سمير امين ان التوسع الذي تخوضه الرأسمالية سيخلق استقطابا جديدا داخل النظام الرأسمالي نفسه يضع هذا الاخير نفسه على جدول اعمال ثورة شعوب الاطراف ضحية التوسع الرأسمالي ، يقر سمير اذا بثورة تنطلق من تخوم العالم ، اي ان العالم الجديد ستصنعه شعوب الجنوب ، نافيا قطعيا ان مركزية اروبية تتحكم الى الابد في مسار التاريخ. وينتقد سمير أمين اختزال التطور التاريخي في نموذج واحد يُفترض أن تسير عليه جميع الشعوب، ويدعو إلى الاعتراف بتعدد الطرق المؤدية إلى الحداثة. فهو يرفض مفهوم «لحاق الجنوب بالشمال» كما تطرحه المؤسسات الدولية، ويرى أن هذا الطرح يجعل دول الأطراف أسيرة لبنية اقتصادية لا تخدم مصالحها، لأنها تقوم على الاندماج التابع في السوق العالمية. ويشير أمين إلى أن المركزية الأوروبية تخفي وراءها حقيقة أن أوروبا لم تتقدم اعتماداً على ذاتها فقط، بل عبر نهب ثروات المستعمرات، واستغلال العمل وموارد آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية على مدى قرون.  ويطرح سمير أمين بديلاً يقوم على ما سماه «فك الارتباط»، وهو مشروع نظري وعملي يدعو الدول التابعة إلى تبني مسارات تنموية مستقلة عن النظام العالمي الذي تهيمن عليه دول المركز. فبالنسبة له، لا يمكن النمو الحقيقي في الأطراف من دون كسر الروابط غير المتكافئة التي تكرّس التبعية. ويؤكد أن تجاوز المركزية الأوروبية يبدأ باستعادة المبادرة التاريخية للشعوب، وإعادة بناء أنظمتها الاقتصادية والثقافية بما يتناسب مع مصالحها وسياقاتها الخاصة، لا بما تفرضه قوى الهيمنة العالمية.

إن نقد سمير أمين للمركزية الأوروبية ليس مجرد جدل نظري، بل هو مشروع تحليلي يسعى إلى كشف البنية العميقة للنظام الرأسمالي العالمي، ويؤكد أن التحرر لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الاعتراف بتعددية الطرق الحضارية، وبتاريخ عالمي مشترك ساهمت فيه شعوب كثيرة، وليس أوروبا وحدها. بهذه الرؤية تصبح مواجهة المركزية الأوروبية خطوة أساسية لبناء عالم أكثر عدلاً وتوازناً، تُحترم فيه خصوصيات المجتمعات وتُكسر فيه أسس الهيمنة.

زر الذهاب إلى الأعلى