سجين السماء لكارلوس زافون: العودة من عالم الأموات بوعد محفوظ
لوسات أنفو: عادل أيت واعزيز
يفرض كارلوس زافون في روايته سجين السماء، نظاما سرديا لاستيعاب أكثر مراحل التاريخ الإسباني سوادا وكارثية، مع بداية الإنقلاب عام 1936، وسيطرة حكم الديكتاتور فرانكو. هو رؤية أسرار برشلونة خلف السطح – برشلونة الكئيبة التي تدخل في الحرب الأهلية – يبحث فيها دافيد مارتين؛ كاتب مدينة الملاعين ولعبة الملاك، عن الحياة عبر الموت، وهو السجين المغرق في الإلغاء، نقطة ارتكاز زافون، يحاول خلاله تعرية رموز النخبة المسلطة وأبواق النظام الإستبداي وأذنابه.
تناهز عدد صفحات الرواية، مدة استغراق دوران الأرض حول الشمس، لما يقارب 365 صفحة، متألفة من خمسة فصول، الأول حكاية أجواء الميلاد، والثاني من عالم الأموات، أما الثالث فهو ولادة جديدة، والشك في الفصل الرابع، ويتبعه فصل اسم البطل.
تنطلق أحداث سجين السماء في أجواء الميلاد وطقوسه الدينية في برشلونة عام 1957، بعد زواج دانيال وبياتيرس واقتراب زفاف دي توريس وبرناردا. وفي مكتبة سيمبري، بعدما شكلت زيارة زابون أعرج منعطفا في مسار الحدث، ويخط على الصفحة الأولى من كتاب الكونت دي مونتكريستو، لألكسندر دوما؛ «إلى فيرمين روميو دي توريس، الذي عاد من عالم الأموات، ويمتلك مفاتيح المستقبل». ويتركه هدية لفيرمين. و هو الكتاب الذي سيشكل طريقة هروبه من السجن الذي يديره ماوريسو فايس، أحد الداعمين للجنرال فرانكو، متسلق وكاتب فاشل وقاتل إزبيلا صديقة مارتين.
يتقدم ماوريسو لفيرمين بصفقة، قد تأمن حياته في السجن وتخفف عقوبته، الأولى أن يستطيع إقناع شريكه سالغادور في الزنزانة بالإفشاء عن مكان مجوهرات ثمينة، والثانية محاولته اكتشاف مكان مقبرة الكتبة المنسية، ملاذ مارتين وسره الأبدي. إلا أن هروب فيرمين الذي خطط له كان ولادة جديدة، تلقي به في مدينة الصفيح التي لا تخضع لزمن الرواية، ولا لشروط الحياة.
وبين تجول القارئ بين شوارع إسبانيا، يتصادف مع وميض الثقافة التي يتربص بها أزلام الدكتاتوريين للتفرد والاستحواذ عليها، ويظهر في الابتزاز والإضطهاد الذي يطال سجناء مونتويك لسرقة أقلامهم وإبداعاتهم ومُخَاتَلَة آمالهم. في هذا السجن يصف زافون فظاظة السلطة حين تكون بين يدي الطغاة، لكنه في المقابل استطاع أن يجعل من كفاح الإنسان ومقاومته خيارا لا رجعة فيه تتجه إليه الإنسانية دوما.
شكلت هذه الهدية هزة دفينة في قاع فيرمين، تتقلب فيها أحداث الرواية، وينضم دانيال إلى فيرمين ويدخلان في تَمَوُّر بعد أن تصادف مع رسالة حب في أغراض زوجته بيا من خطيبها السابق يطلب منها اللقاء، فيحكي الرجلان لكل واحد منهما همه.
ولأن مشروع زافون كان دائما يقوم على أشياء لاتحدث صدفة، فإنه يضع العمق بين قوسين، ويرفع الأشياء والفضاءات لتكون تجربة مباشرة عن محيط الإنسان.
لم يعد السرد في سجين السماء من عالم جهني، بل من عالم أرضي، يعلمنا به زافون كيف نرى العالم بعيون برشلوني كوني، يمشي في مدينة برشلونة ولعنة الأسماء المستعارة تلاحقه، مجردا من كل أفق غير أفق ما يلاحظه ومن كل سلطة غير سلطة عينيه.
يبتكر كارلوس زافون لمارتين فضاء السجن، بقلعة مونتويك، مصحوبا بنقط تحولاته، وجعله يتفكك أكثر من أن يتدهور، في زمن كلاسيكي لايتلقي فيها بالأشياء إلا لتكون كارثته أو انهياره، كأن القارئ أثناء تصفحه، أمام مكعب روبيك، يخضع لنوع من التربية الصارمة، ويحس أنه مشدود وممدد على استمرارية الأشياء والمسارات وتدرجها الحاسم، يستعيد فيه الكاتب جوهو برشلونة وتقلباتها، وهي تحاول الخروج من عنق رهاب الحرب، بشكل بصري خالص.
يضفي زافون لشخصياته بعدا زمنيا غير مألوفا، أراده مجانيا ومستدركا، في وعاء تاريخي دائري، يقود القارئ لمسالك تتراكم في نهاية الرواية. كأن الشخصيات في حالة من البدء.
وحيث يمثل السجن، الحروب، أوضاع برشلونة، زمنا مرآويا – زمن المد والجزر- فإنه يغير محيط الأرض بلسان ما يجري إلى حقل بصري للقارئ، وحينما يتحقق المد يكون القارئ إما في السجن أو في مقبرة الكتب المنسية.
تمضي السنين ويلتقي فيرمين بدانيال، وتنحو الأحداث شكلا سرديا مغاييرا يعقمه زافون، ليهيئ القارئ مجددا لحالة من اللاتكيف تتصدع فيها الفضاءات وتنطلق أحداث “ظل الريح”.