مبدعون في الحياة

رسالة الكباص إلى الدكتور لكريني: نستحق منك حكاية جديدة

الصديق الدكتور المحترم ادريس لكريني،

الموضوع: نستحق منك حكاية جديدة

صباح الخير،

سعدت كثيرا بقراءة عملكم الرائق ” طفولة بلا مطر” مرتين من قوة تأثيره و المتعة التي التي رسخها في نفسي.

عندما كنت أرى عنوان الكتاب في الفيسبوك قبل قراءته، كنت أتساءل عن علاقة دلالة العنوان بمحتوى العمل وعوالمه، و لاسيما عبارة  “بلا مطر” . و هو ما كان يزيد في فضولي متطلعا إلى استكشاف ما يبرر هذا العنوان. وكم كانت دهشتي عندما وجدت أن الأمر يتعلق بالحياة في ظل الجفاف القاسي الذي عرفه المغرب في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. و أعتقد أن هذا أول عمل أدبي أقرأه عن هذه التجربة كما عاشها الناس، اي تجربة الندرة المفاجئة، لأن الجفاف ليس فقط أرقاما اقتصادية، وإنما ايضا أسلوب لم يختره أحد في الحياة ومعاناة أملت تغييرات جوهرية على إيقاع الناس في الوجود، نهاية أحلام وتهجير في المكان وقطائع في ممارسة العيش.

مس هذا العمل وجداني كثيرا لأسباب متعددة، منها أنه يتحدث عن طفولة جيلنا، ذاك الذي ولد في السنوات الأولى من السبعينيات في القرن العشرين. أنا واحد من هذا الجيل، الذي لم يكتب كثيرا عن نفسه. وهو جيل استثنائي، وجيل الأزمة أيضا، لأن كل الإصلاحات التي طبقت كان  في طليعة من تحمل ثقلها: التقويم الهيكلي الذي أقر في سنة 1983، كان جيلنا أول من دفع ثمنها لأن نتائجها الكارثية الواضحة كانت متزامنة مع وصوله إلى سوق الشغل (بداية التسعينات). وهو الجيل الذي طبق عليه إصلاح نظام البكالوريا الذي أقره الحسن الثاني في خطاب شهير في نهاية الثمانينيات. وهو أيضا الجيل الذي أغلقت أمامه الحدود بعد اعتماد أغلب الدول الأروبية سياسة التأشيرة. وهو جيل الطلائع الأولى من ” الحراكة” وقوارب الموت بكل مآسيها .. و هو أيضا الجيل الذي فاجأه تحول العالم إلى كيان رقمي. فكان عليه في كل مرة أن يكيف نفسه مع هذه التحولات..

كتابتك الأنيقة عن طفولتك، محتفظا بنظرة الطفل للمجال و الحياة و الناس، شيء استثنائي و مؤثر. زادت قوة تأثيره شفافيةُ الوصف و رومانسية الاسترجاع، وقوة التقاط المشاهد العابرة التي كانت تتراوح بين المأساوية والمرح الطفولي في قفشات لا يمكن أن يتمكن منها إلا كاتب متمرس يتقن مهارة قنص الطرائف و منحها اللباس الذي يقدمها طازجة أمام عين القارئ. لقد عشنا معك ببني عمار، وتجولنا في حقل جدك، وتسلقنا التلال، و جلبنا الماء من العين، و لعبنا في الساحة، و تشبعنا بروح مدينة زرهون التي لم أزرها من قبل، و أقمنا في داخلية مدرسة فاس، واكتوينا ببرد لياليها، وسرق حذاؤنا أيضا، واستمتعنا بالراديو الصغير، و سمعنا الأغاني منه، و تسامرنا مع الأصدقاء في الغرفة الضيقة، و تفادينا طلقات الرصاص يوم 14 دجنبر 1990، و تدربنا على الصمود والأمل في الطريق بين فاس و بني عمار.

هذا النص الغني، وهو حالة عبور في الحياة، عبور بين ناس بأفراحهم وأحزانهم، وعبور بين أربعة أمكنة : قرية بني عمار، زرهون، فاس، فرنسا. إنه عبور للأحلام جعلتنا قوة الكتابة نتدرب عليه ببهجة نادرة.

لا أستطيع أن أنسى أقوى مشهد مؤثر في هذا النص، وهو الزيارة الأخيرة رفقة جدك المرحوم إلى حقله، عندما التفتت و فاجأتك شيخوخته، فأحسستَ أنه الوداع.

عندما كنت أقرأ الفقرة الأخيرة من الكتاب، لم أستطع أن أتفادى هذا الإحساس الذي تحول لدي إلى قناعة، وهو أن هناك جملة خفية تتكلم بين سطور هذه الفقرة، تقول” أعدكم بالتتمة.” ونحن ننتظرها. فبقدرما ما كشف لنا العمل عن الكاتب الذي يتخفى وراء الأكاديمي الصارم المنشغل بقضايا القانون وحياة المؤسسات وإدارة الأزمات، بقدر ما جعلنا أكثر طمعا في قراءة المزيد لهذا الأديب المتميز، ذاك الذي فتح ابواب الذاكرة أمام جيل السبعينات، و خزّن مشاعر طفولته في المدرسة و الدرب و بين الحقول..

صديقي نستحق منك حكاية جديدة..

مع أجمل المودات

عبد الصمد الكباص

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى