حسن أوزال/ مفكر مغربي
منذ مدة ليست بالقصيرة ،اقترن الشعر المُهيمِن و الأكثر شيوعا باللبس و الغموض كما امتزج بغياب المعنى و الهذيان .لنقل على الأرجح أن قضية الثرثرة و اللغط التي انخرط فيها فن الشعر و مازال ، قضية لم يكن لها أن تكون و لا أن تسترسل تاريخيا ، لولا حلول، لغة المعتوهين التي ميزت عصرنا العدمي التيولوجي حتى النخاع، محل الملحمة الغنائية التي عرفتها الأزمنة الأولى الخاصة بالحضارات الشفاهية .
ذلك أن الحاجة للشعر في الحضارات الأولى التي لم تظهر فيها الكتابة بعد ، كانت حاجة أكثر ارتباطا بالتذكر و تسجيل الوقائع منه بشيء آخر.لقد كانت مهمة الشعر حينها مهمة صون للذكريات من التلاشي و الاندثار ، تخليذا لها في أشكال جمالية بديعة .
قضية الثرثرة و اللغط التي انخرط فيها فن الشعر و مازال ، قضية لم يكن لها أن تكون و لا أن تسترسل تاريخيا ، لولا حلول، لغة المعتوهين التي ميزت عصرنا العدمي
في هذا الإطار يتبدى أن التدوين إنما جاء تعزيزا لهذه المهمة ما أن عمل على تقييد الأمور الشفاهية في متون و أطراس، ميسرا سبل وصولها إلينا اليوم سواء على شكل ملاحم بلاد مابين النهرين أو في صيغها اليونانية فاللاثينية ناهيك عن الأشعار الهندية و الاسلندية و الجرمانية و الأمازيغية.إلا أن انقلابا سيطرأ فجأة مع سطوة الكتابة كحرفة بحيث أن فن الشعر سيعرف تحولا ارتكاسيا بامتياز حلت بموجبه عبادة الكلمة و تقديس النص محل الحياة و المغزى منها.ليغدو الشعر في صيغته العدمية هو مابه يستعاض عن الدين ما أن أصابه العي و داع تقديس المدلول تزامنا مع ديوع فكرة موت الله.ولعل أكثر الشعراء تدشينا لهذه المرحلة الحاسمة في الغرب، هو الشاعر مالارمي الذي بقدرما جعل من الكلمة وثنا يستدعي الركوع بقدرما فضل الإستعارة و الرمز عملا بمنطق سِرّي بموجبه يعلن عن ميلاد فن شعري نخبوي و طلائعي يغدو فيه الرائي هو من يصنع اللوحة الفنية تماما مثلما يصنع القارئ القصيدة.
و مما لايخفى على المهتمين بتاريخ الشعر إنما هو ما تتميز به قصيدة مالارمي بالأساس باعتبارها ما ينطوي على سر دفين لا يفقه كنهه أحد .ذلك أن شعر مالارمي سرعان ما صار مشمولا بالايقاع النغمي ما أن سَلّم في المدلول نفسه معلنا عن موته هو الاخر و ميلاد دال مرهون بالصوت ليس إلا .بديهي و الحالة هاته أن يأتي البيت الشعري عند مالارمي رافضا لكل ما يكون شهوانيا و متعويا إن لم نقل نابدا لكل ما يكون جسديا و ماديا، ليشتغل كمفهوم و مثال أو نومين لايسعنا إلا الامتثال له عقائديا.
