حلقات من تاريخ نقابة مفتشي التعليم (8)
الحلقة الثامنة: عندما برهنت التجربة أن النقابة ليست مقراً ولا رصيداً مالياً..

يكتبها عبد الرزاق بن شريج (عضو مؤسس لنقابة مفتشي التعليم وعضو مكتبها الوطني لمدة 20 سنة)
تقديم
كما وعدتكم في الحلقات السابقة، أواصل اليوم توثيق وقائع تلك المعركة القضائية التي خاضتها نقابة مفتشي التعليم بعد أسبوع واحد فقط من تأسيسها. كانت أياماً تختبر قدرتنا على الصبر والتحمل، وأسابيع تتوالى كأنها رحلة على درب طويل محفوف بالمفاجآت.
قرار لا رجعة فيه
في الحلقة السابعة وقفنا عند محطة تقديم الطعن في المرسوم 2.02.845، وسنتعرف من خلال هذه الحلقة مرحلة التحديات والإكراهات.
منذ المؤتمر التأسيسي، اتُّخذ قرار مواجهة الدولة والطعن في المرسوم (بمثابة النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية). أدرك المؤتمرون والمؤتمرات أن الصمت يعني عملياً نهاية دور جهاز التفتيش.
لهذا اجتمع المكتب الوطني في لقاءات ماراثونية بلا مقر ولا إمكانيات، إذ كنا مقتنعين بأن التراجع خيانة لرسالتنا. وقرار المؤتمر نهائية: (قرارات المؤتمرات تُنفذ ولا تُناقش).
بفضل التجربة السياسية والنقابية لأعضاء المكتب الوطني، انتُدبت لجنة من سبعة أعضاء لتتبع وتنفيذ قرارات اللجنة الإدارية، ورسمت هذه اللجنة الخطوط العريضة لتدبير مرحلة دقيقة.
كان واضحاً أننا أمام محطات حاسمة لا يمكن التفريط في أي منها، وإلا وجد جهاز التفتيش نفسه سنوات طويلة تحت رحمة نصوص ظالمة. حدد المكتب الوطني ثلاث معارك كبرى لا يجوز خسارة أي واحدة منها:
• انتخابات اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء (2003)؛
• الطعن القضائي بعد التأسيس مباشرة؛
• تأسيس الفروع الجهوية والإقليمية لضمان الانتشار والدفاع عن الإطار النقابي.
محمد الرباحي… صبر لا ينضب وإصرار لا يلين
في قلب تلك اللحظات الصعبة، برز الكاتب العام محمد الرباحي كقائد ميداني لا يكلّ. كان يسافر بين فاس والرباط في حافلات مكتظة، حاملاً ملفات الدعوى والمقالات والبلاغات ليسلمها بيده للصحفيين ومراسلي الصحف، رافقته في تلك المهام مرات عديدة، موّل من جيبه مصاريف الطباعة والمراسلات، في تواصل عبر الهاتف باستمرار يتابع أدق التفاصيل. لم نسمع منه أنيناً، بل جملة ثابتة: “القضية تستحق كل هذا العناء، لو تراخينا ولو قليلاً سيضيع جهاز التفتيش وستضيع معه المنظومة التربوية”.
ساهم بشكل بارز وهام في التعريف بأهمية جهاز التفتيش وبالنقابة، حيث كتب مقالات متواصلة، على الأقل مقالين في الأسبوع، تارة باسم النقابة، وتارة باسمه الشخصي، وأحياناً بأسماء مستعارة لأسباب سياسية ونقابية.
مكتب بلا مقر ولا موارد مالية
لم يكن للنقابة مقر نجتمع فيه، ولا رصيد بنكي يغطي مصاريف الطعن أو أبسط العمليات النقابية. كنا نعقد لقاءاتنا في مقاهٍ متواضعة بفاس أو الرباط أو في بيوت الأعضاء. الرسائل والمذكرات والدعوات كانت تُكتب بخط اليد الجميل للأخ الرباحي، ثم تُصوَّر حسب الإمكانيات المتاحة.
ورغم كل ذلك، ظل المكتب الوطني متماسكاً ككتلة واحدة، يتحرك على جبهات متوازية:
• تأسيس الفروع: لبسط الامتداد وضمان تمثيلية حقيقية، مع مراعاة خصوصية كل جهة وإقليم؛
• انتخابات اللجان الإدارية: أولوية الأولويات، لأنها تمنح النقابة شرعية التفاوض القانوني مع الوزارة. ولكن لابد من تأسيس الفروع فمن دونها لن تجد النقابة من يروج لأهدافها خلال الحملات الانتخابية، لذا خضنا معركة شاقة بعزيمة؛
• الطعن في المرسوم 2.02.845: محطة مصيرية مرتبطة بكل المعارك الأخرى السابق ذكرها؛
• الوقفات الاحتجاجية: وسيلة للتعريف بخطورة الاختلالات والتعبئة لباقي الاستحقاقات، وإظهار قوة النقابة وتماسك أعضائها.
المفاجآت التي صنعت الفارق
المفاجأة الأولى: أتعاب المحامين
لقد تعود كل واحد منا على أن مصاريف التنقل والتراسل والتواصل والأكل والمبيت في الفنادق على حسابه الخاص، ولكن كان همّنا الأكبر من حيث المصاريف هو كيف سنؤدي أتعاب المحامين. خاصة وأن فكرة الاكتتاب لم تنجح، لكن الأخ الرباحي زف خبرا سعيدا ومفاجئا في اجتماع لجنة التتبع مفاده أن النقيب محمد أقديم والمحامي الشاب المرافق له أعلنا تنازلهما الكامل عن الأتعاب، واستعدادهما لمواصلة الدفاع مجاناً في حال الاستئناف. لحظة صمت خيمت علينا جميعاً، شعرنا فيها أن العدالة ليست مجرد نصوص، بل رجال يؤمنون بها.
المفاجأة الثانية: سرعة التضامن
توقّعنا أن نواجه وحدنا، لكن سرعان ما تدفق الدعم المعنوي من المفتشات والمفتشين في مختلف الأقاليم. رسائل نصية قليلة واتصالات هاتفية بسيطة ومقالات الرباحي تحولت إلى شبكة تضامن واسعة، بل التحق بنا مفتشون منخرطون في نقابات أخرى، واستمر دعم معظم جمعيات مفتشي التربية الوطنية؛
من التنظيمات النقابية الأخرى، في تدبير عمل التنظيمات الدعم المالي مهم ولكن المعنوي أهم.
ثمار الصبر الطويل
بعد شهور من الجهد، صدر الحكم المنصف، واضطرت الوزارة للتفاوض مع النقابة. ونتيجة لتلك المفاوضات، صدر المرسوم المعدل (2.02.78 بتاريخ 14 ربيع الأول 1425 الموافق 4 ماي 2004، منشور في الجريدة الرسمية عدد 5212 بتاريخ 13 ماي 2004).
كما انطلقت الوزارة في إعداد المذكرات الناظمة لمهام التفتيش (من المذكرة 113 إلى 118) في إطار اللجنة العشرية التي نسق عملها آخر مفتش عام بوزارة التربية الوطنية، الأستاذ عبد الإله مصدق مفتش الرياضيات. (وسأعود لهذه المحطة بتفاصيلها في الحلقات المقبلة)
ومن أبرز التعديلات وأهمها التي حملها المرسوم الجديد:
• إدماج أساتذة الثانوي المكلفين بالتفتيش في إطار مفتشي التعليم الثانوي (المادة 111)؛
• ترقيات استثنائية وتخفيف شروط الأقدمية (المادتان 112 و114)؛
• الاحتفاظ بالأقدمية في الدرجة والرتبة (المادة 96)؛
• تنظيم المهام والإبقاء على صلاحية الشهادات (المادتان 113 و115).
مع الإشارة إلى أن التعديلات استمرت إلى غاية 2021، لكن انسجاما مع البرنامج الذي وضعته لتقديم هذه الشهادة التاريخية، اقتصرت على ما ورد خلال فترة المكتب الوطني الأول (2003–2006)، لأعود للباقي في الحلقات الموالية.
الدرس الذي لا يُنسى
حين أستعيد تلك الأيام، أتذكر وجوه إخوةٍ وزملاءٍ ورفاقٍ صنعوا المستحيل، وأستحضر اللحظة التي قال فيها النقيب أقديم للأخ الرباحي: “لا أتعاب بيننا، أنتم تدافعون عن المدرسة العمومية ونحن معكم”.
لقد برهنت التجربة أن النقابة ليست مقراً ولا رصيداً مالياً، بل رجال ونساء يؤمنون بأن الإرادة الصادقة والصبر الطويل هما مفاتيح النصر، مهما اشتدت الصعاب وغابت الوسائل.
بهذه الشهادة يظل ذلك الفصل من تاريخ نقابة مفتشي التعليم مثالاً حيّاً على أن القادة الكبار المؤمنين بالقضية، المتمرسين، الذين يهمهم إيجاد الحلول وتقريب الأفكار والتصورات بين أعضائها قادرون على تحويل العجز إلى انتصار.