عبد الإله إصباح
تشارلز بوكفسكي الشاعر والروائي الأمريكي المتميز، كتاباته تعكس حياته و تترجم مشاعره وأحاسيسه. قسوة الاب، الفقر، الجوع، التشرد، إدمان الكحول، علاقاته النسائية المتعددة، انشغاله بالكتابة التي صارت لديه طقسا يوميا يستنزف منه جل ساعات يومه،شجاراته في الشوارع والحانات، ذلك هو عالمه الروائي، وتلك هي فضاءاته. روائي تنجذب بسرعة إلى لغته وأسلوبه من الصفحات الأولى، وتنشد إلى استعاراته وتأملاته وسلاسة سرده وحكيه. يبهر بقدرته على الملاحظة الدقيقة في نقل التفاصيل الصغيرة المرتبطة بحياته اليومية، سواء ككاتب، أو عامل متجول أو موظف بإحدى المصالح الرسمية
الكتابة لديه لا تنفصل عن الكحول والجنس، إذ لا يستطيع الانغماس في طقوسها إلا وهو يحتسي الكاس تلو الآخرى، ولا يتوقف في الغالب إلا ليهاتف إحدى عشيقاته أو يستجيب لدعوة إحداهن.
وطأة روتين العمل في المصالح الحكومية، لم تقض على شغفه بالكتابة، ولم تجعله ينهزم ويستسلم بل بالعكس تفطن إلى مخاطر ذلك على مزاجه ونفسيته، فأدرك أن سلاحه الوحيد لمواجهة الانسحاق الذي تشكله الوظيفة هو الكتابة ، فكان عند عودته إلى المنزل ينغمس لساعات في طقسها هي والشرب في آن واحد، وبدل أن يكون العمل عائقا أمام إبداعه نجح في جعله دافعا ومنطلقا لإنجاز إحدى روائعه الخالدة ” مكتب البريد”
كتاباته لا تدعو إلى عقيدة أو تنتصر لإيديولوجيا ما، فهو ليس مع الرأسمالية ولا ضدها، لأنه مدرك هشاشته كفرد في عالم لا يستطيع تغييره، ولن يستفيد شيئا من تغييره، لا يهمه أن تندلع الحرب أو تتوقف لآنه ينتمي إلى تلك الفئة من البشر التي لا يتغير وضعها سواء في اوقات السلم او اوقات الحروب، استنتج ذلك عندما قاسى تجربة التشرد وعاشر المشردين وخبر عالمهم كواحد منهم، ولذلك لم ينشغل بانتصار أمريكا في الحرب او هزيمتها فالأمر بالنسبة له سيان، لأنه سيظل كما هو في جميع الأحوال
كانت الكتابة هي ترياقه لتحمل عبثية الوجود، والتأقلم مع واقع قاس، فكانت وسيلته لتحويل قبح هذا الواقع إلى جمال و إبداع، ومع الشرب والجنس أستطاع أن يبتكر أن وجودا ذا معنى إلى حد ما، وجودا محتملا وجميلا، دون أن ينساق وراء وهم السعادة لأن خبرته بالحياة علمته أن ما يهم هو عيشها بأقل قدر من الألم، حتى وإن كان من الصعب تجنب المعاناة كليا مادامت هي الوجه الأخر للحياة، وهي التي دفعته إلى أن يقول ” أحيانا تشعر بأن مجرد وجودك على قيد الحياة أعمال شاقة” بمعنى أنه قد تأتي لحظات تدفع المرء إلى الشعور بمثل هذا الإحساس، وتأتي لحظات أخرى يكون فيها رائقا ومبتهجا. ولا شك أن بوكفسكي كان مبتهجا عندما قال ذات مرة ” أعزائي، امتلئوا بالحياة التي سنفقدها يوما ما “
هو ذا إذن بوكفسكي، أدبه هو أدب الحياة في صخبها وهدوئها، في قسوتها وجمالها.