مبدعون في الحياة

إنها سيرتنا جميعا… عبد العزيز بومسهولي يكتب عن سيرة فاطمة تزوت

ما يدهش في نشأة هذه السيرة، هو  ذلك اللجوء إلى "الأنثوية" كراعية للوجود البشري

عبد العزيز بومسهولي/ فيلسوف مغربي

هذه السيرة مدهشة بالفعل، ليس لأن العنصر الغرائبي يتدخل بشكل عجيب في سيرورة أحداثها، بل لأنها أيضا شاهدة على تحولات عميقة، لعصر عرف انبثاق الوعي بالحرية والكرامة من جهة، وعلى انبثاق وعي المرأة المغربية في خضم صراع حاد سواء مع الطبيعة أو مع المجتمع، وسواء أيضا مع محتل أجنبي ما قبل الاستقلال، أو مع استبداد محلي إبان الاستقلال، من جهة أخرى. وهي مدهشة لأنها تحكي في نهاية المطاف، سيرة امرأة لم تصنع كيانها الظروف المتباينة الشدة فحسب، بل صنعتها أيضا إرادة امرأة، لم تكن قوية لأنها تخلت عن أنوثتها، وإنما لأنها خلقت من أنوثتها عنصر قوة متعاظمة بقدرتها على ابتكار ذاتها من جديد، وعلى مقاومة الظروف والشروط الاجتماعية والثقافية والسياسية أيضا، ولذلك كانت ولا تزال مناضلة بامتياز، وهي بذلك جديرة بأن تقول “ها أنا ذا” وأن تؤكد ثانية ببهاء الأنثى “هو ذا اسمي”.

فاطمة تزوت

هذه السيرة مدهشة بالفعل، لأنها تبدأ كما تبدأ الأسطورة، أي من خلال بداية تصنع كل المصير، كما لو كانت نشأتها من قبل آلهة تترك الإنسان يواجه وحده قدره الخاص، دون أن تتحكم في لعبة الأحداث اللاحقة والتي يمكن لهذا الإنسان أن يواجهها باقتدار أو يستسلم لها عند أول منعطف للوجود.

والحال أن النشأة المؤسسة لهذه السيرة، ليست إلا لحظة عجيبة تقترن بالرغبة في الخصوبة، وهي رغبة أنثوية بامتياز، لأنها لا تعني فقط حفظ الكينونة، بل أيضا تخصيب الكينونة، أي جعلها أكثر قدرة على حفظ النسل لأجل البقاء بالطبع ولأجل صنع المصير.

ما يدهش في نشأة هذه السيرة، هو  ذلك العنصر الأشبه بالأسطوري، والذي يكمن في اللجوء إلى “الأنثوية” كراعية للوجود البشري، أي أن هذا الوجود لا يحمي ذاته، ولا يضمن استمراره إلا في رعاية الأنوثة الحاضنة والواقية. ومن ذلك نفهم سر لجوء أسرة عانت من ويلات الموت الذي يلاحق أطفالها تباعا، إلى الاهتداء بفكرة غريبة كل الغرابة عن النمط الذكوري السائد في بلد النشأة، أي بفكرة  أجبرتها على اللجوء  ل “قناع الأنوثة” باعتباره حلا سحريا لوقاية وحفظ كينونة طفل كامل الذكورة اختارت له من بين الأسماء هذا الاسم الأنثوي الأمازيغي “بية” بدل “محمد” وهو اسمه المخفي. بهذا العنصر تتأسس الحكاية برمتها، ويبدأ تاريخ مغاير مليء بالأحداث والمفاجئات والمصادفات العجيبة التي تصنع الأسماء كما تصنع الأشياء.

ليس بإمكاني أن ألخص كل الأحداث الناتجة عن هذه البداية الأسطورية في هذه الورقة، ولكن بإمكاني أن أوكد على أن بداية مدهشة كهذه لا يمكن أن ينتج عنها سوى وقائع مدهشة أيضا، وكل بداية على هذا النحو تكون بالتالي من قبيل تراجيديا يواجه فيها الأبطال أقدارهم التي يتقبلونها كما هي بمقتضى الضرورة، غير أنهم في الآن عينه يكونون مستعدين لخوض أقسى المعارك من أجل مصيرهم، ولذلك يكونون صانعين لتاريخهم الخاص.

إن القدر الذي أجبر أسرة محمد على هجرة اضطرارية أو الهروب المفاجئ، خوفا من انكشاف سر “قناع الأنوثة” عن طفل عاش طفولته لا كأطفال بلدته، وخوفا من ردود الفعل التي ستكون بلا شك أشد قسوة على الأسرة بكاملها، ناهيك عن المصير الذي يمكن أن يواجه الطفل أيضا.

كل شيء يمضي في بداية الرحلة صوب المجهول بكيفية تراجيدية، بحيث يفقد الطفل أباه، غير أن الطفل سرعان ما استرد هويته المفقودة، بعيدا عن مسقط الرأس وفي بلدة أخرى تكاد تحتفظ بنفس الخصائص الطبيعية والثقافية، لكن الأمر لم يكد يستقر على هذا الحال، فكانت الرحلة الثانية باتجاه مدينة الدار البيضاء.

بالرغم  من كل العوائق اللغوية والثقافية استطاعت أسرة محمد التكيف في الفضاء الاجتماعي الجديد الذي يستوعب كل الاختلافات والتباينات الثقافية لما قبل الاستقلال، في هذا الوسط أبان محمد  عن قدرة هائلة في تغير أكد من خلاله صمودا وتحديا نادرين، مما مكنه من الانخراط في حركة مقاومة الاحتلال، كما مكنه بعد الاستقلال من الانخراط في العمل الاجتماعي والسياسي والنقابي، وفي ثنايا هذه الأحداث يلتقي بما يشبه الصدفة العجيبة بامرأة اضطرت للهجرة من إحدى قرى الأطلس المتوسط إلى الدار البيضاء لتحرر ذاتها الأبية من هيمنة تسلط نمط ذكوري لا تحتمله ذات حرة، بالرغم مما كانت تحظى به من مكانة خاصة.

لم يكن محمد-بية سوى والد فاطمة، ولم تكن تلك المرأة الأطلسية الأمازيغية الحرة سوى أم فاطمة، ولم تكن فاطمة سوى هذه المرأة البيضاوية، التي نشأت في بيئة مفعمة بالصمود والنضال. ولذلك فلا غرابة أن تكون قبل بلوغها مرحلة الشباب منخرطة في الحركة الاحتجاجية التلاميذية، ولا غرابة في أن تكون معبرة بحق عن تطور وعي المرأة المغربية المعاصرة بذاتها، ولا غرابة أن تكون منخرطة طوعا في العمل الثقافي والسياسي والاجتماعي، ولا غرابة أن تظل صامدة إلى حد الآن، وهي التي شهدت في كل الفترات العصيبة عن تحولات المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي، خاصة بعد اقترانها برجل مناضل عتيد ومثقف أصيل، من طينة المرحوم صبري، هذا الرجل الذي لم يدخر وسعا في النضال من أجل مغرب الحرية والكرامة.

يحق لفاطمة تزوت أن تقول ها أنا ذا بوجه عار تماما إلا من الأصالة، ويحق لها أن تبصم اسمها بمداد من فخر النضال والصمود، لها أن تفتخر بأبويها، ولها أن تفتخر بزوجها المناضل الكبير الراحل صبري، ولها أن تفتخر بكونها أنجبت مفكرا أصيلا من طينة طارق صبري البروفيسور بجامعة وستمنستر ببريطانيا، وفي النهاية لها أن تفتخر بذاتها لا عن غرور بل عن دورها في تأسيس وعي جديد بالمغرب المعاصر.

سيرة فاطمة هي سيرتنا جميعا، كونها تعبر عن شيء فينا، وعن نزوعنا نحو كينونة تتأصل بالصمود والحرية، ولهذا تستحق أن تقرأ.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى