تحليلات استراتيجية

إسبانيا: مائة سنة من الانقسامات

Benoît Pellistrandi

ترجمة عبد الكريم أوشاشا

في 15 من نوفمبر 1930 نشر الفيلسوف الليبرالي خوسيه أورتيجا أي جاسيت ( José Ortega y Gasset ) مقالا عنيفا يستهجن فيه موقف الملك الفونس الثالث من دكتاتورية ميغيل بريمو دو ريفيرا (Miguel Primo de Rivera)1923 – 1930 معلنا وصارخا ومخاطبا الأمة “إسبانيا، دولتك لا توجد، يجب إعادة بنائها” وبهذه الصرخة اختزل في جملة واحدة  التاريخ المعاصر للدولة الاسبانية.

وقبل ذلك في سنة 1922 نشر هذا الفيلسوف الليبرالي المثير للجدل مقالا تحليليا بعنوان ” إسبانيا اللا فقرية ” يساءل فيه ضعف المسار التاريخي الاسباني في بناء دولة وطنية قوية، وكان هذا حقيقة هو مطمح الجمهوريون ابتداء من سنة 1931: إعادة بناء دولة قوية متحررة من نفوذ الكنيسة ، لها مكانة في التطلعات والمطالب الوطنية القومية لكل من الكاتلان والباسك وغاليسيا تستطيع أن تمتلك الضمانات الضرورية لإقلاع اقتصادي واجتماعي.

 هذه الدولة الجمهورية التي سيتم بناؤها ما بين 1931 و1936 ستجد في طريقها معارضون شرسون؛ فالحرب الأهلية التي اندلعت، هي صراع بين مفهومين لهوية الأمة أو على الأقل  بين مشروعين للدولة؛ وكانت الرؤية المركزية والمحافظة هي التي جسدها الجنرال فرانكو.

كانت الانتخابات البلدية أو المجالس الجماعية ل 12 أبريل 1931 انتصارات مدوية للجمهوريين، على إثرها غادر الملك الفونس الثالث البلاد وفي 14 أبريل  تم الإعلان عن الجمهورية؛ وقد عاشت البلاد 8 أشهر من الغليان السياسي قلب الأمور رأسا على عقب .. حتى تم إصدار الدستور يوم 9  من ديسمبر..

صراعات وانقسامات

في خضم إعادة بناء الدولة انطلق نقاش حول مفهوم الأمة، وكانت الخيارات واسعة، من القوميين الكاتلان الذين يفضل البعض منهم جمهورية فيدرالية، إلى من يفضل مركزية الدولة ويرى في نجاح النموذج الفرنسي اليعقوبي مثلا يحتذى به… لكن الكل كان متفقا على ضرورة علمانية هذه الدولة

 عند الإعلان عن وفاة الدكتاتور سنة 1975، كان السؤال المطروح هو، إذا كانت الدولة موجودة، وهي الآن جهاز سياسي بغيض، كيف العمل على تطويرها وإعطاءها مضمونا يستجيب للحاجيات الأساسية ويؤمن انتقالا ديمقراطيا انطلاقا من احترام العدالة والمساواة ؟ كان هذا هو رهان الفاعلين لدمقرطة الدولة (….)

انطلقت إذن فترة من المفاوضات السياسية ما بين السلطة والمعارضة لقيادة البلاد نحو بر الديمقراطية، وبإعلان أدولفو سواريث غونثاليث (Adolfo Suárez González ) رئيسا للحكومة سنة 1976 ابتدأت عملية الانتقال الديمقراطي وانتهت سنة 1982  مع فوز الاشتراكيين..في خضم هذا الجدل السياسي العارم  والذي أفضى إلى إضفاء الشرعية على الأحزاب السياسية في الانتخابات الحرة ل 15 يونيو 1977، ووضع دستور مصادق عليه عبر استفتاء شعبي يوم 6 ديسمبر 1978 .. سيتم إعادة النظر في  مفهوم الأمة .. (…)

بعد انتخابات 15 يونيو 1977، تم تشكيل لجنة دستورية مهمتها وضع نص يعبر عن تعددية اسبانيا.   بعد مفاوضات عسيرة لتوفيق ودمج وجهات النظر لدى كل من الوزير السابق لفرانكو  مانويل فراغا (Manuel Fraga Iribarne) والقومي الكاتلاني Miquel Roca وأيضا وجهة نظر التي يدافع عنها  اليسار ..

فالجهات الثلاثة المسماة ” مناطق تاريخية ” كاتالونيا – وبلاد الباسك –  وغاليسيا هي متميزة أصلا لأنها كانت من قبل تتوفر على نظام أو شبه نظام للحكم الذاتي ما بين 1932 و1939 ..وقد كان من أولويات أدولفو سواريث غونثاليث كسب تعاطف المدافعين عن الحكم الذاتي كما أنه قام في 7 أبريل 1977 بإلغاء حظر الحزب الشيوعي الإسباني  وإعطائه الشرعية  ليظهر للعالم أجمع  ديمقراطيته..

الانتخابات الجهوية في بلاد الباسك يوم 9 مارس 1980 وفي كاتالونيا يوم 20 مارس 1980 ليست فقط تجديدا للمؤسسات، ولكنها أيضا انتصار متأخر للقوميين على الوحدويين الفرانكويين…

فالاستبداد الفرانكوي ألغى الشعارات والرموز القومية للمناطق التاريخية، وفي هذا اليوم المثير  أصبحت البلاد تتوفر على 17 راية كلها تعبر عن مناطق مستقلة، لكن في البلديات والعمادات تم الاتفاق على رفع العلم الاسباني، وعلم الاتحاد الأوروبي ، وعلم تلك المنطقة المستقلة…

من  سنة 1968 إلى 2011، قامت منظمة إيتا بزرع الرعب بضرباتها الإرهابية مطالبة بالاستقلال.. قام جوزيف بيريز Stephen Joseph وهو ينهي من كتابة  “تاريخ إسبانيا” سنة 1996 بسؤال حول الإرهاب المرتبط بالنزعة القومية.. ويعتبره ” السؤال الصعب ” والذي يجب على البلاد أن تقوم بحله فالحرب على الإرهاب طويلة والحصيلة دموية (أكثر من 800 ضحية جراء الهجمات الإرهابية) فالديمقراطية في مواجهة دائمة مع التهديد الإرهابي..فالقومية الباسكية تمتلك الأغلبية وتحكم إقليم الباسك منذ 1980 لكنها موافقة على بناء إسبانيا من خلال الإجماع الدستوري المرتكز على مبدأ الدولة الديمقراطية التعددية لسنة 1978.  فدولة الحكم الذاتي من سنة 1980 إلى سنة 1996 تطورت من خلال إيقاعين مختلفين، من جهة المناطق التاريخية الثلاثة بالإضافة إلى إقليم الأندلس  Andalusia والنبرة أو نافارا Navarra ومن جهة أخرى المناطق اثنا عشر.. منذ 1996 والبلاد كلها غير ممركزة.. (..)

هل إسبانيا وحدتها  مستحيلة ؟ سياسيا، فطرق البناء الدستوري لهذه الوحدة من الصعب جدا إيجادها أو وضعها من فوق. لكن توجد إسبانيا يمثلها ويتنفسها ويعيشها الإسبانيون أنفسهم .. إن تقارب كل هذه التصورات والرؤى وتجميعها  في قالب وحيد لا يمكن أن يخفي عنا واقع لإسبانيا أخرى يتم تحويلها أو (صرفها)  بالجمع والمفرد.

عبد الكريم وشاشا

karimouchacha@gmail.com

المصدر مجلة التاريخ

    

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى